كشفت الزيارات المتعددة لمسئولي الإدارة الأمريكية إلى الدول العربية التي تشهد تعثراً في المراحل الانتقالية، والتي كان آخرها زيارة مساعدة وزير الخارجية الأمريكية للشئون الأفريقية مولي في للسودان لمدة خمسة أيام من ٥ إلى ٩ يونيو الجاري، عن أنه رغم انشغال إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن بتشكيل تحالف دولي لعزل روسيا في أعقاب عملياتها العسكرية ضد أوكرانيا، إلا أنها أولت اهتماماً متزايداً بتعثر المسار الديمقراطي في هذه الدول، وتزايد العقبات التي تواجه جهود تشكيل بعض الحكومات فيها رغم الانتهاء من الاستحقاقات الانتخابية.
تبدي إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن اهتماماً خاصاً بمواجهة الأزمات الناتجة عن تعثر المسار الديمقراطي في عدد من الدول العربية، لكونه يؤثر على قدرات تلك الدول على التعامل مع التحديات الاقتصادية المتزايدة والتعافي من آثار جائحة “كوفيد-19” ومواجهة تحدي ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء في أعقاب الحرب الروسية-الأوكرانية ومكافحة التنظيمات الإرهابية، وهو ما جعلها ساحة للحروب الأهلية ولنفوذ بعض القوى الإقليمية، على نحو فرض على الإدارة الاتجاه نحو المزيد من الانخراط المكثف في شئون المنطقة، في وقت تتعاظم فيه التحديات الدولية والضغوط الداخلية التي تستحوذ على اهتمام صانعي القرار الأمريكي، بالتوازي مع استمرار الاحتجاجات والسخط الشعبي في تلك الدول، بشكل ترى إدارة الرئيس بايدن أنه يؤثر على المصالح الأمريكية، والأمن والاستقرار الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط، التي عادت لتحتل أهمية استراتيجية لديها بعد فترة من التراجع.
آليات متعددة
اعتمدت الإدارة الأمريكية على جملة من الآليات لدفع دول الأزمات إلى المضي قدماً في المسار الديمقراطي المتعثر، ومن أبرزها ما يلي:
١- التعاون مع قوى إقليمية رئيسية: كشفت إدارة الرئيس بايدن، منذ اليوم الأول لها في البيت البيض، عن اتجاهها إلى إعادة تشكيل التحالفات الخارجية لمساعدتها على مواجهة الأزمات والتحديات الدولية. ولذلك تعاونت الولايات المتحدة مع حلفائها وشركائها في الشرق الأوسط لحلحلة تعثر المراحل الانتقالية في المنطقة. فبدعوة من مساعدة وزير الخارجية الأمريكية للشئون الأفريقية مولي في والسفير السعودي بالخرطوم على بن حسن جعفر، عقد أول لقاء بين أعضاء من قوى “الحرية والتغيير” والمكون العسكري، في ٩ يونيو الجاري. وقد عقد الاجتماع، وفقاً لبيان السفارة الأمريكية في الخرطوم، بغرض تبادل الأفكار حول كيفية حل الأزمة السياسية الراهنة، وكذلك الاتفاق على عملية سياسية تقود إلى الانتقال الديمقراطي في السودان.
٢- ربط الدعم الاقتصادي بالتقدم الديمقراطي: حرصت الإدارة الأمريكية على الربط بين استمرار المساعدات الأمريكية للسودان وتحقيق تقدم في المسار الديمقراطي. ففي أعقاب الإجراءات التي اتخذت في 25 أكتوبر الماضي، علّقت الإدارة الأمريكية كل مساعداتها للسودان، والتي تقدر بحوالي ٧٠٠ مليون دولار. وقد كان الغرض من تقديم تلك الأموال هو “دعم فرص تحقيق الديمقراطية في البلاد”، وهو الأمر الذي كررته مساعدة وزير الخارجية الأمريكية للشئون الأفريقية مولي في، حيث قالت، في 14 يونيو الجاري، أنها أبلغت المسئولين السودانيين الذين التقت بهم خلال زيارتها الأخيرة للسودان، بـ”عدم استئناف المساعدات قبل استعادة المسار الديمقراطي بالبلاد”.
٣- تخفيض مستوى المساعدات الأمريكية: على الرغم من ترحيب الإدارة الأمريكية، في ١٤ ديسمبر الماضي، بإعلان الرئيس التونسي قيس سعيّد جدولاً زمنياً يحدد مسار الإصلاح السياسي والانتخابات البرلمانية، والالتزام بالشراكة الأمريكية–التونسية، فإنها اقترحت في “ظل الدعم الأمريكي لتطلعات الشعب التونسي في حكومة فعالة وديمقراطية تحمي الحقوق والحريات”، خفض المساعدات الاقتصادية والعسكرية لتونس إلى النصف تقريباً في السنة المالية المقبلة بسبب ما أسمته بـ”الإخفاقات التونسية المتعددة للعودة للمسار الديمقراطي”. وفي هذا السياق، أشارت تقارير عديدة إلى أن الإدارة الأمريكية دعت إلى تقديم ٦١ مليون دولار كمساعدات عسكرية وأمنية لتونس في العام المقبل، في حين أنها وصلت في العام الحالي إلى ١١٢ مليون دولار، إلى جانب تخفيض المساعدات الاقتصادية الأمريكية بمقدار النصف أيضاً لتصل إلى ٤٠ مليون دولار.
ويأتي قرار الإدارة الأمريكية بخفض المساعدات الاقتصادية والعسكرية لتونس تحت ضغوط المشرعين الأمريكيين من الحزبين الديمقراطي والجمهوري الذين حثّوا الرئيس على مراجعة المساعدات الأمنية الأمريكية لتونس بسبب ما اعتبروه “تراجعاً في المسار الديمقراطي في البلاد”. كما وجّه ٥٠ من الخبراء والسفراء الأمريكيين السابقين، وبعضهم ممن عملوا في تونس، في ٣ مارس الماضي، رسالة لإدارة الرئيس بايدن لحثها على ربط المساعدات المقدمة لتونس باتخاذ خطوات نحو الحكم الديمقراطي.
4- ممارسة ضغوط لتشكيل الحكومة: تمارس الولايات المتحدة ضغوطاً قوية على القادة العراقيين لإنهاء الجمود السياسي الذي تعرضت له عملية تشكيل الحكومة الجديدة، منذ إجراء الانتخابات البرلمانية في 10 أكتوبر الماضي، لكونها تعيق التعافي الاقتصادي بالعراق في الوقت الذي تتصاعد فيه حدة الأزمة الاقتصادية، فضلاً عن أن غياب الحكومة يعرقل تمرير ميزانية عام ٢٠٢٢ في البرلمان. وفي هذا السياق، أعربت مساعدة وزير الخارجية لشئون العراق وإيران جينيفر غافيو، في ٢٣ أبريل الماضي، عن تزايد المخاوف الأمريكية من استمرار تأخر تشكيل الحكومة العراقية الجديدة، خاصة أن ذلك، يعيق، في رؤيتها، التعاون الأمريكي-العراقي في القضايا الرئيسية ذات الاهتمام المشترك بما في ذلك القضايا الأمنية والاقتصادية، فضلاً عن أن تأخر تشكيل الحكومة “يخصم من قدرة القادة العراقيين على معالجة الأزمات المهمة وتقديم الخدمات الأساسية للعراقيين العاديين الذين انتخبوهم من أجلها”. كما أكدت السفيرة الأمريكية لدى العراق ألينا رومانوسكي، خلال لقاءها رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي بمناسبة بداية تسلم عملها في 2 يونيو الجاري، أن بلادها تتطلع “إلى تعاون أوثق مع العراق في مختلف المجالات ولا سيما الاقتصادية والثقافية والتعليمية وعودة العراق لأداء دور رئيسي في المنطقة، وما لذلك من تأثير إيجابي إقليمياً وداخلياً”، في إشارة إلى أن ذلك يرتبط في المقام الأول بتعزيز الاستقرار السياسي عبر تشكيل الحكومة الجديدة.
لكن ثمة اتجاهاً بدأ يظهر داخل الولايات المتحدة ويرى أن المسار الحالي للأزمة السياسية العراقية لا يتوافق مع المصالح الأمريكية، لا سيما مع إعلان نواب التيار الصدري استقالاتهم من البرلمان، في 12 يونيو الجاري، على نحو سوف يوفر فرصة للقوى الموالية لإيران من أجل تشكيل الحكومة الجديدة، رغم تراجع نتائج معظمها في الانتخابات البرلمانية الأخيرة.
نتائج عكسية
أكدت الخبرة التاريخية أن نهج الولايات المتحدة في ربط المساعدات التي تقدمها لبعض الدول بشروط اتخاذ إجراءات على المسار الديمقراطي ليس فاعلاً، بل إنه يفرض، في كثير من الأحيان، نتائج عكسية، فضلاً عن أنه يتعارض مع أولويات الإدارة للنهوض بالديمقراطية، والتصدي للتحديات الاقتصادية الخطيرة التي تواجه تلك الدول، ولا سيما مع عدم تعافيها من آثار جائحة “كوفيد-19” وتداعيات الحرب الروسية-الأوكرانية وما صاحبها من ارتفاع في أسعار الوقود والغذاء. وقد دفع ذلك العديد من التحليلات الأمريكية إلى انتقاد هذا النهج، لأن خفض المساعدات لا يؤثر على الأنظمة السياسية ولكنه يفرض تداعيات على الشعوب. فضلاً عن أن وقف المساعدات العسكرية يؤدي إلى إضعاف قدرات القوات المسلحة على التصدي للتهديدات الإرهابية التي تواجهها تلك الدول، خاصة مع استمرار محاولات التنظيمات الإرهابية تعزيز نشاطها من جديد والعودة إلى المناطق التي سبق أن فقدت السيطرة عليها في أعقاب الهزائم التي تعرضت لها في كل من العراق وسوريا.