تتعدد السياسات التي تتخذها الدول العربية “الكبرى” للحد من التأثيرات الضاغطة التي تمثلها المسألة السكانية خلال عام 2022، بل وتحسين جودة الحياة للمواطنين، ومنها تدشين مشروعات تنموية كبرى كالتي تشهدها مصر مثل المشروع القومي لتنمية الأسرة، وإدماج القضايا السكانية في الخطط الاقتصادية والاجتماعية مثلما تفعل الحكومة السودانية، وإطلاق حملة التعداد الفعلي للسكان على نحو ما تتجه إليه الهيئة العامة للإحصاء بالمملكة العربية السعودية لتعزيز تنفيذ رؤية 2030، وإشاعة الثقافة الاجتماعية والتوعوية بضرورة تنظيم الأسرة وخفض الإنجاب، وهو ما برز جلياً مؤخراً في العراق. غير أن هناك تحديات موازية قد تعوق سد الفجوة بين ازدياد السكان وقلة الموارد.
يُعد التحدي الديموغرافي، بدرجات متفاوتة وأشكال مختلفة، القاسم المشترك في الشواغل الرئيسية للدول العربية، الفقيرة والغنية، وهو ما عكسته اتجاهات النقاش في “منتدى البرلمانيين العرب للسكان والتنمية” الذي عُقد بالقاهرة في 2 مارس الجاري. إذ يعتبر المنتدى منصة مهمة للحوار بين رموز العمل البرلماني، تهدف إلى تعزيز التنسيق والشراكة بين المجالس البرلمانية العربية للمساهمة في وضع معالجات فاعلة للقضايا والتحديات السكانية في الدول العربية، وتبادل الخبرات والتجارب الناجحة في مجال السياسات السكانية، إلى جانب سعي المنتدى لدمج قضايا السكان في السياسات التنموية العربية.
تحدٍّ تنموي
وفي هذا السياق، قالت د. هالة السعيد، وزيرة التخطيط بمصر، إن “التحدي السكاني هو العنصر المشترك في العديد من التحديات التنموية التي تواجهها الدول العربية على المستوى المحلي، حيث وصل عدد سكان الدول العربية في عام 2020 إلى نحو 431 مليون نسمة بمعدل نمو بلغ نحو 1.8% بين عامي 2010 و2020، وهو معدل مرتفع يتجاوز مثيله في أقاليم العالم الرئيسية، ومن المؤشرات الديموغرافية المهمة التي تواجهها الدول العربية ارتفاع نسبة الفئة العمرية دون سن 15 عاماً، إذ تبلغ نحو 32.7%، أي ما يقارب ثلث السكان تقريباً”.
وأضافت د. هالة السعيد أن تلك المؤشرات تفرض تحدياً يتمثل في محدودية قدرة الدول العربية على الوفاء باحتياجات السكان المتزايدة، من الرعاية الصحية الجيدة، والسكن اللائق، والتعليم الجيد، وتوفير فرص العمل المناسبة؛ حيث ينعكس كل ذلك في ارتفاع البطالة، موضحة أنه على الرغم من أن المنطقة العربية ليست أكبر مناطق العالم فيما يتعلق بالشريحة السكانية في سن العمل؛ إلا أنها تعد أعلى أقاليم العالم في معدلات البطالة بنسبة 12.7% (نحو 17 مليون متعطل عن العمل في 2020)، مؤكدة أن الحاجة لضبط التوازن بين الموارد المتاحة وحجم السكان هي الإشكالية الرئيسية المرتبطة بالقضية السكانية وتداعياتها التنموية.
وتنطبق هذه الإشكالية على معظم الدول العربية، إذ تؤثر الزيادة السكانية سلباً بحدوث هذا الاختلال بين الموارد والسكان، على نحو يؤدي إلى ازدياد الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، ويتراجع نصيب الفرد من عائد جهود التنمية وثمار النمو الاقتصادي، وينخفض نصيب الفرد من الدخل المتحقق ومن الإنفاق على التعليم والصحة والإسـكان، كما يزيد ذلك من صعوبة مواجهة بعض المشكلات مثل ارتفاع معدلات البطالة وتحقيق الأمن الغذائي.
ولعل ذلك يتفق مع ما أشارت إليه السفيرة مشيرة خطاب، رئيس المجلس القومي لحقوق الإنسان، في كلمتها خلال فعاليات المؤتمر الدولي الذي عقده المجلس القومي لحقوق الإنسان، بالمشاركة مع الشبكة العربية للمؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان، واللجنة الوطنية لحقوق الإنسان في دولة قطر، وجامعة الدول العربية، والمفوضية السامية لحقوق الإنسان، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي حول التضامن الدولي وخطة عام 2030 للتنمية المستدامة، في 27 فبراير الماضي، حيث قالت: “لا يمكن أن نتغافل عن التحديات المجتمعية التي تتصدرها مشكلة الزيادة السكانية، حيث أصبحت عبئاً كبيراً على اقتصاديات الدول النامية، وأحد أنماط انتهاكات حقوق الإنسان، ومنها حقوق الأطفال والشباب وحقوق المرأة”.
ويمكن القول إن هناك سياسات اتخذتها الدول العربية الكبرى للحد من تأثيرات المسألة الديموغرافية، وذلك على النحو التالي:
المشروع الوطني
1- تدشين مشروعات تنموية كبرى: ولعل ذلك ينطبق على المشروع القومي لتنمية الأسرة في مصر، الذي تم إطلاقه في 28 فبراير الماضي، والذي يهدف إلى ضبط معدلات النمو السكاني المتسارعة والمتزايدة، حيث تستقبل مصر 2.5 مليون مولود سنوياً، مما يمثل ضغطاً على قطاعات التعليم والصحة والإسكان وغيرها.ووفقاً لما تشير إليه بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فقد بلغت الزيادة السكانية خلال العقدين الماضيين 45 مليون نسمة، ليصل عدد السكان في الداخل إلى 103 ملايين نسمة، لتتحقق بذلك زيادة سكانية قدرها مليون نسمة خلال 232 يوماً فقط، وبمعدل 179.6 مولوداً كل ساعة، ومولود لكل دقيقة.
وقد عبر عن هذا المعنى الرئيس عبدالفتاح السيسي خلال افتتاحه عدداً من المشروعات القومية بقطاعي الإسكان والطرق بمدينة السادس من أكتوبر بمحافظة الجيزة في 2 مارس الجاري، حينما قال إن تنفيذ تلك المشروعات يسهم في حل مشكلات النمو السكاني في المناطق المكتظة بالسكان. ويلاحظ أن هناك تحولاً في استراتيجية الدولة المصرية تجاه التعامل مع ملف الديموغرافيا من خلال بعدين رئيسيين هما ضبط نمو السكان والارتقاء بخصائص السكان. ولذا، ولأول مرة تتعامل الدولة المصرية مع الملف السكاني من خلال أنشطة اقتصادية عكسها بوضوح المشروع القومي لتنمية الأسرة.
الدمج السكاني
2– إدماج القضايا السكانية في الخطط الاقتصادية والاجتماعية: على الرغم من التعثرات الانتقالية التي تمر بها السودان بعد الإطاحة بنظام حكم البشير، تحاول المؤسسات المعنية بملف السكان وقف التمدد الديموغرافي بدءاً من عام 2022، حيث توقع المجلس القومي للسكان وصول عدد السكان إلى 62 مليون نسمة بحلول عام 2035، من بينهم 37 مليوناً من الفئة العمرية (15-30 سنة). وفي هذا الإطار، تتصاعد دعوة رئيس المجلس وصال حسين الأمين للمسئولين وصناع القرار للاهتمام بالنمو السكاني، ووضع استراتيجيات وسياسات واضحة، ولا سيما في مجالات الأمومة والطفولة، وبناء القدرات، وتحقيق العدالة في توزيع الثروات والخدمات، بمواجهة الزيادة المحتملة لأعداد السكان، خاصة في ظل التحديات الضاغطة التي تواجه البلاد.
التعداد الديموغرافي
3- إطلاق حملة التعداد الفعلي للسكان: وهو ما تستعد للقيام به الهيئة العامة للإحصاء بالسعودية، والتي تعد الحملة الخامسة في تاريخ المملكة، وكان آخرها في عام 2010، بحيث يتم جمع ونشر وتحليل البيانات الديموغرافية والاقتصادية والاجتماعية المتعلقة بالسكان وتوزيعهم الجغرافي في زمن معين، وسيتم الإعلان عن التعداد الخامس في 9 مايو 2022. ويمكن استخدام نتائج التعداد في رسم السياسات العامة ووضع الاستراتيجيات المرتبطة بالتعليم والصحة والإسكان والاستثمار الرأسمالي المرتبط بشبكات الطرق والاتصالات وتطوير الخدمات العامة والبرامج التنموية عموماً.
هذا بالإضافة إلى تمكين الدول من توزيع الميزانيات بين المناطق الإدارية وفقاً للاحتياجات التنموية، وهو ما تحتاجه المملكة لتنفيذ باقي بنود رؤية 2030، التي تحظى بأهمية محورية لدى القيادة السعودية. كما أن التعداد يفيد في تمكين القطاع الخاص والمستثمرين في دفع عجلة التنمية ورفع مستوى التخطيط الحضري. أضف إلى ذلك أن التعداد يُعد ركيزة أساسية لتطوير الخدمات الأساسية والمرافق العامة، وبالذات في ظل التحولات والتطورات التقنية السريعة التي نشهدها في مجال التعاملات اليومية للأفراد والأعمال.
السلوك التوعوي
4- إشاعة الثقافة التوعوية بضرورة تنظيم الأسرة: وتعد الحالة العراقية هي المعبرة عن ذلك، إذ تجاوز عدد السكان 40 مليون نسمة، وهو ما يمثل تحدياً في ظل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها العراق، خاصة أن تلك الزيادة لا تتناسب مع موارد العراق. وفي هذا السياق، أشار المتحدث باسم وزارة التخطيط عبدالزهرة الهنداوي في تصريح لموقع “سكاي نيوز عربية” في أول يناير الماضي، إلى أنه “لا يوجد حتى الآن توجه بإصدار أو تشريع قانون لتحديد النسل، وإنما العمل يجري على إشاعة الثقافة الاجتماعية والتوعوية بضرورة تنظيم الأسرة من خلال المباعدة بين الولادات وتنظيمها بشكل يؤدي إلى تقليل الولادات”، مضيفاً أنه “وفق المعدلات الحالية للنمو السكاني في العراق، فسنوياً يرتفع عدد السكان بما يقارب المليون نسمة، وبواقع 10 ملايين نسمة خلال 10 سنوات، والوصول إلى 100 مليون نسمة بعد 6 عقود”.
وعلى الرغم من أن دولاً عديدة في العالم نجحت في الحد من النمو السكاني من خلال الحملات التوعوية، فضلاً عن توفير فرص عمل مناسبة بما يكفل تحقيق حياة كريمة؛ إلا أن ذلك يواجه بعوائق في الحالة العراقية، لا سيما مع انخفاض مستويات التعليم الذي يسهم في زيادة معدلات الزيجات، مما يعني ارتفاع نسبة الولادات، خاصة أن المجتمع العراقي عشائري يحبذ الإنجاب حتى في المدن الكبيرة مثل بغداد والبصرة والموصل. ولعلّ ذلك هو الذي حفز الحكومة العراقية على البدء في بناء العاصمة الإدارية الجديدة “الرفيل” ضمن المنطقة المحيطة بمطار بغداد الدولي، وسط التقارير التي تتنبأ بارتفاع متواصل في عدد السكان.
وفي هذا السياق، قال وزير التخطيط العراقي خالد بتال، في 20 يونيو الماضي، إن “المؤشرات الديموغرافية في العراق أظهرت تسارعاً كبيراً للنمو السكاني نتيجة استمرار ارتفاع معدلات الخصوبة، والذي ينعكس على نسبة السكان الشباب وعلى تسارع نمو القوى العاملة، مما يولد عجزاً عن تلبية احتياجات السكان وتحديداً الشباب، من حيث فرص العمل وتحسين جودة نوعية الحياة واستداماتها لتحقيق النمو الاقتصادي والتنمية المستدامة الشاملة”.
ولم يقتصر البعد التوعوي على الحالة العراقية، إذ إن المجلس القومي للمرأة في مصر طرح مبادرة في الآونة الأخيرة تتعلق بتدريب عشرة آلاف قيادة دينية في كل المحافظات المصرية للتوعية المجتمعية بشكل عام -والنسائية بوجه خاص- بمخاطر الزيادة السكانية “المنفلتة”. وتوازى مع ذلك توجيه مستشار الرئيس السيسي للشئون الدينية د. أسامة الأزهري، في 3 مارس الجاري، انتقادات لزيادة المواليد في مصر، حيث اعتبرها “ثقافة خاطئة”، محذراً من التكاثر العشوائي غير المرتبط بالكفاية. فضلاً عن رفع وعي المواطن وتصحيح الثقافات المغلوطة المرتبطة بالقضية السكانية من خلال إطلاق حملات توعوية عن طريق عدة وسائل حديثة كمنصات التواصل الاجتماعي والاعتماد على الأنشطة الميدانية.
معادلة معقدة
خلاصة القول، إن هناك تحولات عديدة في إدراك مخاطر الزيادة السكانية بالمنطقة العربية خلال عام 2022، ومنها توافر الإرادة السياسية لذلك في حالة مصر بعد وصول الرئيس عبدالفتاح السيسي للحكم في منتصف عام 2014، عبر محاولة خفض معدل الزيادة السنوية إلى 400 ألف سنوياً، وإحداث التوازن المفقود بين معدلات النمو الاقتصادي ومعدلات النمو السكاني. وتحاول أصوات متعددة داخل السودان الالتفات إلى ملف التمدد السكاني. كما أن السعودية تتجه لاستحداث تعداد جديد بما يعزز تطبيق رؤية 2030 التي تحظى بدعم ورعاية ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. ويشهد العراق حملات إعلامية ومجتمعية لتقليص زيادة السكان. غير أن هناك تحديات موازية تعوق تنفيذ تلك الجهود، وتهدد خطط التنمية الطموحة، بما يجعل الدول العربية أمام معادلة معقدة.