دخلت تونس مرحلة جديدة بعد عام من الإجراءات التي اتخذها الرئيس قيس سعيّد، حيث أظهرت نتائج الاستفتاء على التعديلات الدستورية الذي أُجرى في 25 يوليو الجاري، وتزامن مع الذكرى السنوية لاحتفال تونس بعيد الجمهورية؛ تأييد الناخبين التونسيين الذين شاركوا فيه للتعديلات الدستورية، بنسبة تصل إلى ما يقرب من 92 في المائة، مقابل نحو 8 في المائة أبدوا رفضهم لها.
ورغم أن نسبة المشاركة في الاستفتاء، وفقاً للتقديرات الأوّلية لهيئة الانتخابات، وصلت إلى 27.54 في المائة، إلا أن الرئيس سعيّد اعتبرها “انتصاراً” للعملية السياسية التي بدأت في 25 يوليو 2021؛ في حين سعت قوى المعارضة- وخاصة حركة النهضة وجبهة الخلاص الوطني- وكذلك منظمات حقوقية، إلى شن حملة ضد الاستفتاء، واتهام الرئيس سعيّد بالسعى إلى إقرار دستور يتوافق مع طموحاته السياسية.
وتطرح نتائج الاستفتاء، التي أقرت تحول البلاد لجهة النظام الرئاسي، مجموعة من الدلالات والتداعيات المحتملة على واقع ومستقبل البلاد، خاصة فيما يتعلق بتوازنات القوى السياسية خلال المرحلة القادمة.
مضمون التعديلات
تركز التعديلات الدستورية في جوهرها على تحويل النظام السياسي التونسي من نظام برلماني يمتلك فيه رئيس الدولة صلاحيات تنفيذية محددة، إلى نظام رئاسي يُمنح الرئيس فيه مزيداً من الصلاحيات مقابل تعديل اختصاصات البرلمان. كما تتضمن التعديلات التي تمت الموافقة عليها تفويض الشعب صاحب السيادة الوظيفة التشريعية من خلال مجلسين نيابيين، هما مجلس نواب الشعب، والمجلس الوطني للجهات والأقاليم.
ووفقاً للتعديلات الدستورية الجديدة، فإن “الترشح لمنصب رئيس الجمهورية حق لكل تونسي غير حامل لجنسية أخرى”، كما أن “رئيس الجمهورية يمارس الوظيفة التنفيذية بمساعدة الحكومة”. وفيما يتعلق بالفصل المتعلق بانتخاب رئيس الجمهورية، نصت التعديلات على أن “رئيس الجمهورية ينتخب لمدة خمسة أعوام انتخاباً عاماً حراً مباشراً سرياً، خلال الأشهر الثّلاثة الأخيرة من المدة الرئاسية”. كما نصت على أنه “لا توضع قيود على الحقوق والحريات المضمونة بهذا الدستور إلا بمقتضى قانون ولضرورة يقتضيها نظام ديمقراطي وبهدف حماية حقوق الغير أو لمقتضيات الأمن العام أو الدفاع الوطني أو الصحة العمومية”. كما تضمن مشروع الدستور الجديد بنوداً من شأنها أن تساهم في معالجة أزمات المجتمع، أهمها تأسيس مجلس أعلى للتربية في خطوة لإصلاح التعليم والوصول إلى آليات فعالة للتعامل مع مشاكله.
دلالات رئيسية
تطرح نتائج الاستفتاء على تعديلات الدستور التونسي، ونسبة المشاركة الشعبية، في الداخل والخارج، دلالات عديدة يتمثل أبرزها في:
1- استمرار حالة الاستقطاب السياسي: تبنت قوى المعارضة موقفاً سلبياً إزاء الاستفتاء، وهو ما فتح المجال أمام استمرار شكوكها في جدواه ونتائجه، بل والطعن في شرعيته المجتمعية. إذ شنت تلك القوى حملة جديدة للمطالبة بالعودة إلى بنود دستور 2014، أو البدء في إعداد وثيقة دستورية تكون -في رؤيتها- محل توافق بين مختلف القوى السياسية، وهو الأمر الذي ينذر باستمرار حالة الاستقطاب السياسي الذي تعيشه البلاد. لكن اللافت في هذا السياق، هو أن موقف القوى الرئيسية في المعارضة يتسم بالتناقض، خاصة حركة النهضة، التي كانت حريصة في الفترة التي تواجدت خلالها في السلطة على تكريس سيطرتها عليها بشكل أدى إلى اتساع نطاق الاستقطاب السياسي، وتفاقم حدة الأزمة الاقتصادية التي تواجهها تونس خلال الفترة الحالية. ومن هنا، أشار بعض المراقبين إلى أن تركيز قوى المعارضة على شخص الرئيس سعيّد أنتج في النهاية تداعيات عكسية، لأنه ساهم في تمرير الاستفتاء وإقراره على نحو يتوافق مع أجندة الرئيس.
2- نجاح الرئيس في تعزيز شرعيته السياسية: على الرغم من تمسك عدد من الجمعيات والمنظمات المدنية بموقفها الداعم للقوى السياسية الرافضة للاستفتاء، بالتوازي مع الموقف الغامض لاتحاد الشغل التونسي؛ فقد أكد تمرير الاستفتاء أن قطاعات شعبية في تونس تنحاز للرئيس سعيّد. ويشار في هذا الصدد إلى أن أحزاب حركة الشعب والتحالف من أجل تونس وتونس إلى الأمام والتيار الشعبي، قد دعت التونسيين إلى التصويت بـ”نعم”، على نحو يوحي بأن الرئيس نجح في تكوين ظهير سياسي له من خلال الإجراءات التي اتخذها في الفترة الماضية.
3- دعم الشارع السياسي لإجراءات يوليو: رغم أن نسبة المشاركة في الاستفتاء وصلت، وفقاً للتقديرات الأوّلية، إلى 27.54 في المائة، إلا أن ذلك لا ينفي أن قسماً من الشارع التونسي يدعم ليس فقط الخيارات السياسية التي تبناها الرئيس سعيّد، ومنها حل البرلمان، وهيكلة القضاء، ومحاصرة تحركات النهضة التي فرض استفرادها بالحكم في الفترة الماضية تداعيات سلبية عديدة على أمن واستقرار تونس؛ وإنما أيضاً توجهاته الاقتصادية والاجتماعية، وهو ما أوضحته استطلاعات الرأي التي كشفت أن الكثير من التونسيين أشادوا ببعض الخطوات التي اتخذها الرئيس سعيّد، وعبّروا عن استيائهم من مجلس النواب بسبب مسئوليته عن حالة الشلل الحكومي، بما في ذلك عدم إنعاش الاقتصاد التونسي المتعثر.
4- فشل تحالف الخصوم في عرقلة الاستفتاء: على إثر طرح مشروع التعديلات الدستورية للاستفتاء، اتجهت المعارضة إلى تكوين تكتلات وتحالفات سياسية بهدف إسقاطه وتأجيج الأزمة السياسية في البلاد، وظهر ذلك في إعلان 41 جمعية ومنظمة حقوقية تونسية، في 18 يوليو الجاري، عن تأسيس “الائتلاف المدني من أجل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية والمساواة”. كما اصطفت النهضة مع حلفائها الإسلاميين والمدنيين المعارضين للرئيس سعيّد لتحقيق الهدف ذاته. غير أن هذه التكتلات لم تنجح في إقناع الشارع التونسي بالتصويت بـ”لا” على التعديلات الدستورية، وهو ما يشير إلى أن غالبية القاعدة الانتخابية التونسية لم تكن على قناعة بدعوات المعارضة السياسية المناهضة للتعديلات الدستورية. وربما من هنا، يمكن تفسير حرص الرئيس سعيّد على اعتبار نتائج الاستفتاء بمثابة “انتصار” للعملية السياسية التي فرضتها إجراءات 25 يوليو 2021.
تعزيز الدور
في الختام، يُمكن القول إن تمرير التعديلات الدستورية في تونس، وتحول البلاد إلى جهة النظام الرئاسي، قد يؤسس لمرحلة جديدة تتمثل أبرز ملامحها في إعادة صياغة خريطة التوازنات بين هياكل السلطة، بحيث يصبح الرئيس أكثر فاعلية في إدارة المشهد السياسي. كما يتوقع أن تنعكس نتائج الاستفتاء على موقع الخصوم السياسيين، وخاصة حركة النهضة، التي تعرضت لانتقادات شديدة خلال الفترة التي سيطرت فيها على السلطة، ويبدو أنها سوف تواجه اختبارات صعبة خلال المرحلة القادمة، على ضوء تزايد الضغوط المفروضة على قيادتها بسبب سياستها في التعامل مع تطورات المشهد السياسي.