أربكت استقالة المبعوث الأممي إلى ليبيا “يان كوبتش” المشهد السياسي الليبي في لحظة حرجة في ظل ترقب إجراء الانتخابات كتتمة لعملية الانتقال السياسي، الأمر الذي يرجح معه العديد من المراقبين أن تكون تلك الاستقالة بداية الفشل في العملية السياسية الليبية، إلا أن قرار الأمم المتحدة إعادة المبعوثة السابقة بالإنابة إلى المشهد يمثل الخيار الأفضل لدى كل الأطراف، بالنظر إلى عوامل شخصية وسياسية، وبالتالي قد تكون هذه العودة هي نقطة تحرر من الفشل المتوقع إلى بداية إعادة ضبط المشهد الليبي، لا سيما المشهد الانتخابي المحتقن مرة أخرى، حيث يراهن العديد من الأطراف على قدرة “وليامز” على فتح مسارات لتفريغ الشحن والاحتقان القائم، والعبور بالمرحلة الحالية بأفضل ما هو ممكن وبأقل الخسائر المتوقعة.
فستيفاني وليامز التي ينظر إليها باعتبارها مهندس خريطة طريق عملية الانتقال السياسي في ليبيا تعود مجدداً إلى العمل على رأس البعثة الأممية كمستشار للأمين العام للأمم المتحدة، وذلك بعد قبول استقالة “يان كوبتش” المبعوث الأممي، وفي ضوء فيتو روسي على تعيين الدبلوماسي البريطاني “نيكولاس كاي”، وترحيب القوى الغربية المنخرطة في ليبيا بعودة “ستيفاني”، حيث يعتقد أن مرحلة “كوبتش” لم تكن موقفة، غير أن عودة “وليامز” قد تعيد ضبط المشهد في حال الوصول إلى الانتخابات المقررة 24 ديسمبر، أو تعمل على إخراج مشهد تأجيل الانتخابات بصورة مقبولة لا تقود إلى انتكاسة المسار الليبي.
ووفق مصادر أممية في البعثة فإن عودة “وليامز” كمستشار خاص جاءت هي الأخرى تفادياً للفشل في اختيار ممثل أممي بديل، في ظل ضيق الوقت أمام العملية الانتخابية، وبالتالي استخدم الأمين العام صلاحياته في تعيين مستشار له، وإن كان يعتقد أن روسيا أيضاً قد تشكك لاحقاً في الفراغ الرسمي في منصب المبعوث، وهي كثيراً ما كانت تقوم بهذا الدور خلال فترة تولي “ستيفاني” موقع المبعوث بالإنابة خلفاً لغسان سلامة، الذي استقال بدعوى الظروف الصحية في مارس 2021. وبالتالي فالمتصور أن “وليامز” ستكون مستشاراً للأمين العام من الناحية الرسمية، لكن عملياً ستكون على رأس البعثة بفريقها وعلى رأسه اللبنانيان (جان علم – مكرم ملاعب).
ميزات نسبية
في المقابل، يبدو أن الليبيين أكثر تفاؤلاً بعودة “ستيفاني”، بالنظر إلى عدة عوامل، منها على سبيل المثال:
1- اعتبار “ستيفاني” حالة استثنائية: بين كافة المبعوثين الأممين يفضل الساسة الليبيون “وليامز”، لأنها تجمع بين أمرين لم يتوفرا في مبعوث آخر، أنها أمريكية والثانية أنها تتحدث العربية، صحيح أن اثنين من بين 5 مبعوثين إلى ليبيا، اللبنانيين طارق متري وغسان سلامة يتحدثان العربية، لكن نظرة الساسة الليبين وانطباعهم أن تمثيل أمريكي في البعثة يعني أنه يمتلك مفاتيح قد لا يمتلكها آخرون. يضاف إلى ذلك أن “ستيفاني” على عكس أغلب المبعوثين وتحديداً “كوبتش” –الذي كان يتعامل مع رؤساء المؤسسات فقط- تتعامل مع الساسة في ليبيا بشكل أفقي، فهي تعرف إلى حد كبير الدائرة الثانية من الساسة، والعديد من الزعامات القبلية، بالإضافة إلى الناشطين، والمرأة، وتجري معهم حوارات نوعية عن مشاركة المرأة والشباب.. إلخ.
2- الإلمام بتفاصيل خريطة الطريق: على اعتبار أنها مهندس العملية الانتقالية، فبرغم مغادرتها المنصب مع تولي حكومة عبدالحميد الدبيبة إلا أنها ظلت على اتصال مع كافة الأطراف، بالإضافة إلى مهندسي الملف الذين يعملون في الكواليس، وتحديداً غسان سلامة ومركز (HD) السويسري الذي يقوم بدور لوجستي للأمم المتحدة، فضلاً عن إبقائها على اتصال مع كافة الأطراف، ولا سيما مجموعة الغرب، وتحديداً فتحي باشاغا المرشح الحالي. كما تعرف جيداً خالد المشري رئيس المجلس الأعلى للدولة والقيادي الإخواني الذي يسعى إلى تفجير المشهد الانتخابي الليبي بزعم عدم التوافق مع البرلمان على القوانين الانتخابية.
بالإضافة إلى معرفتها الجيدة أيضاً بالمشير خليفة حفتر، وإن كانت أكثر انفتاحاً على أعضاء القيادة العامة للجيش الوطني في اللجنة العسكرية المشتركة (5+5)، وكان أول خطوة لها بعد العودة هي التواصل مع اللجنة أثناء مغادرتها تركيا إلى روسيا للتباحث حول ملف المرتزقة والمقاتلين الأجانب. بالإضافة إلى أن “وليامز” أيضاً هي التي أعادت أنصار النظام السابق إلى العمل، ورتبت مع أعضاء فريق “سيف الإسلام” (مصباح الورفلي، وعمر أبو شريدة) هذا الملف، وحصل النظام السابق على مقعدين في ملتقى الحوار السياسي على هذه الخلفية.
عقبات ضاغطة
لكن في المقابل لذلك، ستواجه “وليامز” عقبات أيضاً، من بينها:
1- إرث “كوبتش” الإشكالي: لا سيما أزمة القوانين الصادرة عن البرلمان، بالإضافة إلى عدم قدرة “كوبتش” على تلبية الرغبة الأمريكية – البريطانية بإبعاد “سيف الإسلام القذافي” عن المشهد، فمن الملاحظ أن رئاسة البرلمان بمجرد عودة “وليامز” قرر عقد جلسة طارئة بناء على طلب 72 نائباً وانتهى الأمر إلى تشكيل لجنة للتواصل مع المفوضية لمعالجة المشكلات التي طرأت على خلفية تطبيق القوانين، ويسود اعتقاد على نحو كبير بأن “وليامز” ساهمت في هذا الأمر في سياق اللقاء الذي جرى بين رئيس المفوضية و”عقيلة صالح” رئيس البرلمان في طبرق قبيل الجلسة، حيث أجرت “وليامز” اتصالات بالطرفين، لكن الإشكالية المرجحة في تلك الجزئية هي أن اللجنة ستقدم تقريرها خلال أسبوع، وقد يحتمل هذا التقرير أمرين: إما المضيّ في الانتخابات، أو طلب العودة إلى تعديل تشريعي، مما قد يخلق ظرفاً لتأجيل الانتخابات، ومن غير الواضح ما هي خطة “وليامز” في هذا السياق، فهل تلجأ إلى التأجيل كمخرج لحلحلة الإشكاليات القانونية حتى لا يتم الطعن على الانتخابات لاحقاً وتكسب الوقت أيضاً لإعادة ترتيب المشهد الانتخابي؟.
2- إدارة المشهد الانتخابي والضمانات المطلوبة: من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن “وليامز” هي التي أخرجت مشهد جنيف، الذي جاء بالحكومة الانتقالية، لكن كانت أغلب الحسابات تنصرف إلى فوز قائمة “فتحي باشاغا” و”عقيلة صالح”؛ إلا أن هذا لم يحدث، وكان التعويل على الطرفين باعتبارهما الرجلين القويين في تلك المرحلة، أحدهما رجل التشريع القوي، والآخر رجل الأمن القوي الذي كان قد أطلق عملية إعادة تنظيم المشهد الأمني وإدماج الفصائل المسلحة في المؤسسات الأمنية. وفي ضوء ذلك، يمكن القول إن “ستيفاني” لديها القدرة على هندسة المشهد، لكن ليس بالضرورة ضمان النتائج.
لكن من المهم أيضاً الإشارة إلى أنها حصلت على ضمانات من قبل بإقرار الأطراف للنتائج، مما يعني أنها قد تتجه إلى الحصول على ضمانات من الأطراف بالاعتراف بالنتائج، والوثوق في العملية الانتخابية حال إجرائها في موعدها أو تأجيلها، وهي نقطة محورية للغاية، الأمر الآخر هو أن معضلة وجود “سيف الإسلام القذافي” التي تعارضها كل من بريطانيا والولايات المتحدة ستعمل “ستيفاني” على تبديد المخاوف بشأنها، وسيمكنها الوصول إلى حلٍّ مُرضٍ للقوى الخارجية في هذا الملف، لكن الأمر سيتوقف على موقف القيادة العامة التي تعتبر أن “سيف الإسلام” مرشح منافس للمشير “حفتر” وسيخصم من رصيده في الشرق والجنوب.
انعكاس إيجابي
في الأخير، يمكن القول إن تأثير عودة “وليامز” إلى ليبيا سينعكس إيجابياً على المشهد الانتخابي، وفي الحدّ الأدنى يرجح قدرة “ستيفاني” على الحدّ من الانزلاق إلى مشهد الحرب مرة أخرى، بما لا ينفي احتمالات وقوع أحداث عنف، لكن سيناريو الحرب قد يكون مستبعداً كاحتمال، الأمر الآخر هو أن “ستيفاني” قد تميل إلى عملية التأجيل، لكن هناك احتمالاً أيضاً بأنها قد تحصل على ضمانات من الأطراف لإجراء الانتخابات في موعدها، إلا أن الأمر لا يتوقف فقط على الفاعلين المحليين، إذ ستحتاج إلى ضمانات من كل من روسيا وتركيا بشأن دور مجموعاتهم في الداخل والمخاوف من تأثيرهم على الانتخابات. وفي المحصلة الأخيرة يمكن القول إنها أياً كانت السيناريوهات المقبلة، فإن إدارة “ستيفاني” ستكون أفضل من تعيين مبعوث آخر خلفاً لكوبتش لا يعرف الخريطة السياسية والاجتماعية والأمنية الليبية.