على الرغم من وجود مؤشرات وتحركات توحي بتجاوز التوترات المكتومة أو الخلافات العلنية بين الدول العربية، خلال الفترة الماضية، بل امتدت لمحاولات استكشافية بهدف إحداث تهدئة في العلاقات بين الدول العربية والقوى الإقليمية، إلا أن هناك خلافات أو أزمات لازالت قائمة، بدرجات متفاوتة وأشكال متباينة بين الدول العربية، مثلما هو الحال بين تونس وليبيا، والجزائر والمغرب، ولبنان وسوريا، والعراق والكويت، والبحرين وقطر، لاعتبارات مختلفة تتمثل في مصدر التهديدات الإرهابية العابرة للحدود الرخوة، وتباين الرؤى إزاء المخاطر الأمنية، وتقنين الحدود البحرية، وإرث النظم السياسية السابقة، والتأخر في حسم القضايا العالقة على نحو يهدد مسار المصالحة العربية الذي تدفع إليه دول عربية رئيسية.
ظاهرة مزمنة
لم تكن الخلافات أو حتى الصراعات العربية- العربية ظاهرة حديثة بل تعود بجذورها إلى مرحلة ما بعد الحصول على الاستقلال من الاستعمار الأجنبي، في عقدى الخمسينيات والستينيات، وبشكل خاص بين الدول الجمهورية الثورية والدول الملكية المحافظة، وهو ما أطلق عليها عالم السياسة الأمريكي الراحل مالكولم كير “حالة الحرب الباردة العربية”، واستمرت تلك الخلافات في نهاية عقد السبعينيات من القرن الماضي، لاسيما حول تغير مدركات التهديد للأمن الوطني في مقابل الأمن القومي.
وجاءت حرب الخليج الثانية بعد الغزو العراقي للكويت في 2 أغسطس 1990 لتهز مقولة الأمن القومي العربي وتكشف عن فجوة بين الدول الداعمة لتحرير الكويت بقوات دولية تشارك فيها جيوش عربية من ناحية، والدول المؤيدة لقرار صدام حسين بغزوه للكويت فيما يعرف بـ”دول الضد” من ناحية أخرى، وظلت تلك الفجوة قائمة لسنوات، وتجددت بشكل خاص بعد الاحتلال الأمريكي للعراق في عام 2003، وبلغت ذروة الخلافات بين الدول العربية بعد موجة الحراك الثوري العربي في بداية عام 2011، لاسيما بعد صعود فروع تنظيم الإخوان إلى السلطة في بعض الدول العربية ومحاولاتها نقل نموذجها إلى دول عربية أخرى بما يعد تدخلاً في الشئون الداخلية.
ولعل ذلك يشير إلى أن قضايا “النظم السياسية” كانت ولاتزال أحد محاور الخلافات بل والصراعات العربية- العربية، على نحو ما عكسته كتابات خبراء أجانب وعرب مثل إدوارد عازار وكال هوسلتي وأحمد يوسف أحمد وحسنين توفيق ومحمد عبدالسلام، إلى جانب قضايا أخرى مثل تجاوز الحدود الجغرافية من جانب دول الجوار الإقليمي، وكذلك الارتباطات الإقليمية للدول العربية، وبدرجة أقل القضية الفلسطينية والوحدة العربية. وعلى الرغم من أن مستوى الخلافات بين الدول العربية، حالياً، لم يصل إلى صدامات حدود عسكرية واسعة أو مناوشات محدودة، أو تهديد بالحرب، أو المطالبة بإنهاء عضوية دولة في الجامعة العربية، أو القيام بأعمال تخريب أو تصفية المصالح الاقتصادية، إلا أن هناك إجراءات أخرى تعبر عن وجود تلك الخلافات.
إجراءات كاشفة
ويعد من أبرز تلك الإجراءات الكاشفة للخلافات البينية العربية قطع العلاقات الدبلوماسية، واستقبال الخصوم السياسيين، ورفض تسليمهم، وإغلاق الحدود، والخلاف على أعمال التنقيب البحري، واستمرار الهجوم السياسي الرسمي دون المستوى القيادي، وهو ما يشير إلى أن هناك قضايا أو مشكلات معقدة تدفع في اتجاه استمرار تلك الخلافات، بما تعكسه الاتهامات المتبادلة بين بعض الدول في كثير من الأحيان، مع الأخذ في الاعتبار أن التقارب الجغرافي كان له تأثير مضاعف على شدة الخلافات بين الدول الواقعة ضمن إقليم جغرافي بعينه.
ويمكن القول إن هناك مجموعة من العوامل التي تفسر الخلافات القائمة بين الدول العربية، في المرحلة الحالية، يتمثل أبرزها في:
1- مصدر التهديدات الإرهابية العابرة للحدود: وهو ما تعكسه بدرجة واضحة الخلافات بين ليبيا وتونس، حيث أشارت تصريحات رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية عبدالحميد الدبيبة، في كلمة وجهها لليبيين في 27 أغسطس الفائت، التي اتهم فيها تونس بـ”تصدير الإرهاب إلى ليبيا”، إلى تأزم في العلاقات التونسية- الليبية، إذ أكد الدبيبة دخول 10 آلاف إرهابي إلى ليبيا، جاءوا خصوصاً من الدول المجاورة، في إشارة إلى تونس، مضيفاً أن “عدد الليبيين منهم على أصابع اليد الواحدة”، وتابع مخاطباً السلطات التونسية: “إذا كانت تونس تريد بناء علاقات حقيقية وصادقة معنا لابد من احترام دول الجوار، نحن أصبحنا فطنين تفطنا للألاعيب الدولية ولا يمكن أن نقبل تكرار المشاهد السابقة، ولا يمكن أن نرضى بأن يتم الضحك على الليبيين مرة أخرى”. وأشار الدبيبة إلى أنه أرسل وفداً إلى تونس لتوضيح الموقف الليبي وتأكيد أن الحكومة تسعى لتأسيس علاقات طيبة مع دول الجوار.
وقد جاءت تصريحات الدبيبة للرد على ما أثير في عدد من وسائل الإعلام الليبية والتونسية بأن المئات من العناصر المتطرفة في ليبيا تستعد لدخول تونس للقيام بأعمال إرهابية، وإن كانت هناك عناصر إرهابية تم إيفادها من تشاد والنيجر ومالي وغيرها من الدول الإفريقية إلى ليبيا، لاسيما في ظل حدود رخوة غير مسيطر عليها، بما يجعل من المتعذر إلصاق تهمة جلب الإرهاب ونشر الفوضى في ليبيا عبر بوابة تونس. كما أن العناصر الإرهابية التونسية لا يمكنها الاستيطان في ليبيا إلا في ظل حاضنة لها في مناطق مختلفة مثل درنة وسرت وصبراتة. ولعل ذلك يلقي بأعباء مضاعفة على أجهزة الأمن والاستخبارات في تونس لتأمين الحدود منعاً لدخول عناصر متحفزة لهز الاستقرار التونسي، على نحو ما عكسته محاولة اغتيال الرئيس قيس سعيّد.
2- تباين الرؤى إزاء المخاطر الأمنية: وينطبق ذلك بشكل واضح على العلاقات الجزائرية- المغربية التي وصلت إلى مستوى القطيعة في 24 أغسطس الفائت، بعد القرار الجزائري الذي لم يكن مفاجئاً بقدر ما عبر عن خلافات متراكمة، بسبب تأييد المغرب لحركة استقلال منطقة القبائل الجزائرية نكاية في الدعم الجزائري لجبهة البوليساريو، علاوة على اتهام الجزائر للمغرب باستغلال بعض المناطق الحدودية المشتركة والسماح لعصابات تهريب المخدرات بالتسلل خلالها وتهريب المخدرات إلى الداخل الجزائري، وهو ما دفع السلطات الأمنية الجزائرية، في مارس الماضي، إلى السيطرة على منطقة “العوجة” الزراعية بإقليم “فجيج” أو “فكيك” شرق المغرب، وطرد عشرات العائلات المغاربة من هذه المناطق التي تدعي أنها خاضعة للسيادة الجزائرية. ولذلك فقد أعلنت السلطات الجزائرية خلال الفترة الأخيرة تكثيف المراقبة الأمنية للحدود المشتركة مع المغرب للحد من أنشطة العصابات المسلحة وعصابات تهريب المخدرات والحفاظ على الأمن القومي الجزائري. هذا بخلاف التباين في الرؤيتين الجزائرية والمغربية إزاء إيران وإسرائيل.
3- الخلاف حول ترسيم الحدود البحرية: شهدت أعمال التنقيب على الآبار النفطية توتراً على الحدود بين سوريا ولبنان في أبريل 2021، وهو ما جاء في مرحلة تالية لاتهام سمير جعجع رئيس حزب القوات اللبنانية، سوريا بالتعدي على حدود لبنان البحرية، قائلاً: “حكومة الأسد اعترضت على طرح لبنان للتنقيب عن النفط والغاز عام 2014″، وأضاف: “هناك تداخل بين الترسيم السوري والترسيم اللبناني في الخرائط، وموقفنا التاريخي من نظام الأسد لا علاقة له بهذه المشكلة، التي يجب حلّها مع أننا ضد نظام الأسد”، وأردف بقوله: “الطرف السوري يحاول قضم 750 كلم مربعاً كما يظهر في الخرائط”.
غير أن الحكومة اللبنانية تحاول التقليل من حدة الخلاف مع الجانب السوري في هذا الملف، على نحو بدا جلياً في تصريحات وزير الخارجية والمغتربين في حكومة تصريف الأعمال اللبنانية، شربل وهبة، في 5 أبريل الماضي، والتي قال فيها: “إن على سوريا ولبنان التفاوض ضمن منطق القانون الدولي وحسن الجوار والعلاقة الأخوية بين الدول العربية لترسيم الحدود البحرية بينهما”، واعتبر وهبة أن “الخلاف على الحدود البحرية لا يشكل قضماً من الجانب السوري للحدود اللبنانية الشمالية البحرية، رغم تضارب الخارطتين اللبنانية والسورية للحدود البحرية”.
4- إرث النظم السياسية السابقة: تعبر الحالة العراقية- الكويتية عن هذا العامل، الذي ينطوي على أبعاد نفسية، بدرجة رئيسية، على الرغم من مضى ثلاثة عقود على تحرير الكويت، فضلاً عن سقوط نظام صدام حسين ووجود محاولات لتجاوز تلك التركة، حيث انتقلت العلاقات من العداء إلى الود النسبي على نحو ما أوضحته الكويت باحتضان مؤتمر دولي لإعادة إعمار العراق في الفترة من 12 إلى 14 فبراير 2018، وزيارة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي للكويت في 22 أغسطس الفائت، وكذلك مشاركة الكويت في قمة بغداد للتعاون والشراكة في 28 من الشهر نفسه، غير أن ذلك لا ينفي أن هناك خلافات متجددة بشأن ترسيم الحدود البحرية.
5- التأخر في حسم القضايا العالقة:تعددت القضايا العالقة في العلاقات البحرينية- القطرية، وهو ما عكسته تصريحات رسمية بحرينية، سواء لوزراء أو مستشارين للملك حمد بن عيسى أو رموز برلمانية أو بيانات صادرة عن مراكز حكومية، على نحو يشير إلى عدم انسحاب تأثير اتفاق العلا على العلاقات بين الدوحة والمنامة. ومن أبرز تلك القضايا التدخل القطري في الشئون الداخلية البحرينية، والمساس بالتركيبة الديموغرافية في ظل أحاديث عن تجنيس مواطنين بحرينيين، واستمرار الخلافات البحرية بعد إيقاف زوارق بحرينية بدعوى دخولها المياه الإقليمية القطرية، بخلاف الخروقات الجوية، واستمرار المعضلة الإيرانية، خاصة بعد صدور تصريحات رسمية قطرية تؤكد عدم تأثر علاقات الدوحة بإيران بعد المصالحة مع الرباعي العربي مع الأخذ في الاعتبار أن البحرين تعتبر إيران مصدر التهديد الرئيسي لأمنها الوطني، فضلاً عن ترجيح استمرار توثيق العلاقات بين الدوحة وطهران في عهد الرئيس الجديد إبراهيم رئيسي. ولعل ذلك يفسر جمود بل توتر العلاقات البحرينية- القطرية على مدى الأشهر الثمانية الماضية.
دورة الخلافات
خلاصة القول، إن الخبرة التاريخية تشير إلى أن الدول العربية إما في حالة خلاف، أو متجهة إلى خلاف، أو خارجة من خلاف، ليشكل الخلاف نمطاً مستقراً في التفاعلات البينية العربية، لاسيما في ظل ظهور أبعاد جديدة، وبمجرد ضعف أو اختفاء العوامل التي أدت إلى التهدئة أو التسوية، وظهور عوامل جديدة تدفع إلى الخلاف، تبدأ الخلافات في التصاعد من جديد حتى تصل إلى عامل تهدئة أو تسوية، وهكذا. وإذا استمر هذا الاتجاه في النمو، من المرجح أن يتعثر الأمن والاستقرار في بعض الدول العربية من ناحية، ويعطي ذريعة للأطراف الخارجية للتدخل في الشئون الداخلية العربية من ناحية أخرى.
مداخل متعددة
إن الاتجاه إلى تسوية الخلافات البينية العربية يسهم في الارتقاء بواقع المنظومة العربية، وهو ما يمكن تحقيقه عبر آلية اللجان المشتركة والتي تعقد بصورة منتظمة سواء في الدولتين اللتين يندلع بينهما خلاف أو في دولة أخرى تكون بمثابة وسيط مقبول، ويتم مناقشة كل القضايا بشفافية حيث يقبل الطرفان ويلتزم بما تسفر عنه من قرارات، وتوسيع نطاق المفاوضات في بعض الحالات لتشمل ترسيم الحدود البحرية بهدف تقاسم ثروات النفط والغاز بين الدول المتشاطئة. هذا بخلاف المساعي الحميدة التي تقوم بها بعض الدول العربية لتسوية الخلافات المزمنة بين دول عربية متنازعة، لأن الحوار هو المدخل الرئيسي لتسوية الخلافات، ويقوي العمل العربي المشترك القائم على إجراءات “بناء الثقة” لطى صفحة الماضي.