قمم الرياض مع الصّين: آفاق الثّقة الاستراتيجية والرؤيويّة السّعودية – الحائط العربي
قمم الرياض مع الصّين: آفاق الثّقة الاستراتيجية والرؤيويّة السّعودية

قمم الرياض مع الصّين: آفاق الثّقة الاستراتيجية والرؤيويّة السّعودية



مدهشة هذه الانطلاقة البنّاءة في الدول الخليجية العربية، حيث القيادات الرؤيوية والشابة تستبق المستقبل بالجرأة على الحلم والتخطيط والإصلاح، والعزم على عقد شراكة الازدهار والسعادة مع المواطنين.

أثناء الأسبوعين الماضيين، حاكت صور الوفاق المؤثِّرة الإحساس بقشعريرة الافتخار، فحبست دمعة الفرحة أكثر من مرة. حدث شيء جميل جداً في الدوحة، ليس فقط بسبب هيبة التحضيرات لكأس العالم لكرة القدم، المونديال، بل أيضاً لدى مشاهدة قادة السعودية والإمارات في ضيافة القيادة القطرية بحفاوة واعتزاز وعزم على المضي بهذه النقلة الضرورية.

حدث أمر مثير حقاً للإعجاب، تمثّل في إعلان السعودية أن موازنة 2023 ستشهد فوائض مالية بنحو 4.2 مليارات دولار، وتأكيد ولي العهد الأمير محمد بن سلمان انخفاضاً تاريخياً للبطالة، وهذه ثمار الإصلاحات يقطفها الاقتصاد والشعب والمرأة السعودية التي ارتفعت مشاركتها الاقتصادية من 17.7 في المئة الى 35.5 في المئة. فهنيئاً لشعب يستيقظ على أنباء كهذه وسط التحضير الضخم لاستقبال رئيس الصين شي جينبينغ في قمم الرياض البراغماتية والاستراتيجية.

دول الخليج العربية تبني نفسها وتبني كذلك المنطقة العربية في إطار المكانة السياسية الدولية. فالعاصمة السعودية استضافت قمتين مهمتين تنعقدان للمرة الأولى، خليجية – صينية وعربية – صينية، ما يضيء على تبنّي السعودية عقيدة لافتة، قوامها أن الشراكة هي سر نجاح القيادة. وواقع الأمر، أن الدولة المؤهّلة فعلاً للقيادة العربية والإقليمية هي السعودية.

قمم الرياض أطلقت المستقبل. ضمنت تصدير النفط إلى سوق الصين واستيراد التكنولوجيا منها، والشراكة في المشاريع الضخمة التي ستربط الصين ودول الخليج، بل ودول المنطقة العربية حينما تصحو دول المشرق من أنظمتها الفاشلة وتلتحق بالمسيرة الخليجية. ذلك أن لا مجال للاستثمار أو للإعمار في دول مضطربة يقطنها الفساد، حكامها لا يكترثون بالناس. فنعم، هنيئاً لشعوب الأنظمة الملكية التي تسهر على سعادة الناس وازدهار البلاد. وبئس الأنظمة الجمهورية التي استخدمت الشعوب سِلعاً لتسويق أكاذيبها وإشباع جشعها الرهيب.

ماذا أرادت الصين من هذه اللحظة الفريدة التي توافرت لها في قمم الرياض؟ القيادة الصينية متأكدة من أن الظروف الآن مُتاحة لها لزيادة نفوذها في الشرق الأوسط، نظراً إلى ضعف روسيا وخروجها عملياً من المنطقة، في الوقت الذي فقدت فيه الولايات المتحدة المبادرة في الشرق الأوسط.

بكين تتوقع ازدياد مشكلات روسيا دولياً، وهي لا تودّ أن تقع في اعتماد غير مضمون على نفط روسيا، لذلك تريد أن تضمن مصادر طاقة موثوقاً بها ويمكن الاعتماد عليها بصورة دائمة. وبما أن كونغرس الحزب الحاكم اتخذ قرار تجديد الدفع نحو مشروع حزام وطريق، تحتاج الصين إلى علاقات جيدة مع دول الخليج والشرق الأوسط.

إنه أسلوب مركّب يجمع بين عزم الصين على خوض جديد في علاقاتها مع هذه الدول، سياسي واقتصادي وإقليمي. فالعلاقات الاقتصادية لن تكون حصراً في مجال الطاقة، بل إنها ستتوسّع إلى مشاريع نهضوية، من البنية التحتية إلى السياحة. تكنولوجياً، لن يقتصر التعاون على التكنولوجيا المدنية، بل قد يشمل التكنولوجيا العسكرية التي لا تسمح الولايات المتحدة والدول الغربية بتصديرها إلى الدول العربية.

سياسياً، وعلى الصعيد الإقليمي، تودّ القيادة الصينية أن تلعب دور “الجسر” بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية بهدف تهدئة الأجواء. فالصين لا تحب التوتّر في العلاقات بين أصدقائها. والقيادة الصينية تعتقد أن في وسع الصين أن تلعب دوراً مميزاً وناجحاً في مسألة اليمن، ما سيكون مرحّباً به سعودياً وخليجياً. إيران قد تقاوم، لكن مساحة النفوذ الصيني مع طهران لا يُستهان بها.

فالاتفاقية الاستراتيجية الشاملة بين الصين وإيران واسعة النطاق ومتعدّدة الصعد، وهي تعطي الصين نفوذاً مهماً في إيران. هذا أولاً. ثانياً، إن استيراد الصين الكميات الضخمة من النفط الإيراني هو الذي يعطي طهران القدرة على الاستمرار بدلاً من الانهيار اقتصادياً بسبب العقوبات الأميركية. وبالتالي، إن شراء الصين للنفط الإيراني يعطيها زخم نفوذ إضافي مع إيران. فإذا استخدمت بكين هذا النفوذ لإنهاء حرب اليمن، يكون ذلك حقاً استثماراً كبيراً مع السعودية التي تريد الانتهاء من ذلك النزاع.

في الإطار الجغرافي – السياسي والتموضع الاستراتيجي كقوى كبرى، المعادلة اليوم مختلفة تماماً مع خروج روسيا عملياً من المثلث السابق الذي ضم الولايات المتحدة والصين وروسيا في سياق التنافس بين الدول الكبرى. سواءً أحذفت روسيا نفسها بنفسها بغزوها أوكرانيا، أم أن الغرب وحلف الناتو ورّطاها عمداً لإخراجها من المعادلة، واقع الأمر أن المعادلة الآن ثنائية حصراً.

ليس هناك أي دليل على أن الصين تنظر إلى منطقة الخليج والشرق الأوسط على أنها ساحة منافسة بينها وبين الولايات المتحدة. كذلك الأمر بالنسبة إلى الولايات المتحدة التي لا تعارض تطوّر العلاقات الخليجية – الصينية، ما دامت حصراً اقتصادية وليست عبارة عن تكتّلات أمنية. الصين بدورها لا تسعى وراء زج نفسها شريكاً أمنياً بديلاً من الولايات المتحدة بصفتها الشريك الاستراتيجي الأمني للدول الخليجية العربية، وهي ترى أن لا نزاع بينها وبين الولايات المتحدة خارج النزاع على تايوان.

وبالتالي، إن المسألة الوحيدة ذات البعد الأمني لمنطقة الخليج هي إيران. وهناك يمكن للدول الخليجية العربية أن تستفيد من علاقاتها مع الصين لترويض إيران. هذه نقلة نوعية، علماً أن إيران كانت قد راهنت على الترويكا بين الصين وروسيا وإيران. لكن هذه الترويكا تمزّقت ببعديها الروسي والإيراني، وتعدّلت جذرياً ببعد النقلة في العلاقات الصينية – العربية.

 اليوم، تتملّص الصين شيئاً فشيئاً من روسيا الضعيفة، ولا تريد أن تربط نفسها بمصير روسيا إن هُزِمت أو ضَعُفَت أكثر، نفطياً خصوصاً. اليوم، تتملّص الصين شيئاً فشيئاً من روسيا الضعيفة، ولا تريد أن تربط نفسها بمصير روسيا إن هُزِمت أو ضَعُفَت أكثر، نفطياً خصوصاً. فالعالم بدأ يتهيّأ للقطبين الأميركي والروسي بدلاً من عالم الأقطاب الثلاثة. وهذا يتطلّب من الصين كما من الولايات المتحدة التفكير ملياً بمعنى الأمن العالمي والاستقرار العالمي في النظام العالمي الجديد. استقرار الطاقة في الخليج هو جزء مهم مما تفكر به الصين، ولذلك فإن وجهتها السعودية فائقة الأهمية.


 فالعالم بدأ يتهيّأ للقطبين الأميركي والروسي بدلاً من عالم الأقطاب الثلاثة. وهذا يتطلّب من الصين كما من الولايات المتحدة التفكير ملياً بمعنى الأمن العالمي والاستقرار العالمي في النظام العالمي الجديد. استقرار الطاقة في الخليج هو جزء مهم مما تفكر به الصين، ولذلك فإن وجهتها السعودية فائقة الأهمية.

الرياض تفهم ذلك، وما يهمها هو تأكيد الأسواق وتثبيتها، علماً أن الصين هي أكبر مستورد للنفط من السعودية. تريد القيادة السعودية تأمين سوق يستوعب النفط السعودي لسنوات، وتريد التكنولوجيا بلا قيود، وتريد التدريب والشراكات الضرورية لنهضة تنقل المملكة إلى فصل آخر. الصين توفّر للسعودية كل ذلك. فالسعودية بلد يتطوّر يومياً بالابتكارات والمشاريع والاستثمارات، وتطوير السواحل والمدن والسياحة المستقبلية، وهو مصرّ على تخفيف الاعتماد حصراً على مصادره النفطية.

التوافق الذي يحصل بين دول مجلس التعاون الخليجي الست يشير إلى أن هذه الدول بدأت وضع قاعدة عملية وثابتة لانطلاق العمل مجدّداً في ما بينها. وجود ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى جانب أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني يوم افتتاح المونديال كان صورة جميلة، ازدادت جمالاً عندما التقطت فرحة الشيخ تميم بفوز السعودية فوضع العلم السعودي على رقبته.

زيارة رئيس دولة الإمارات العربية الشيخ محمد بن زايد آل نهيان الدوحة كانت فائقة الأهمية، لأنها فتحت صفحة جديدة بعد قطيعة صعبة، وأوحت بالتفاهم مجدّداً. فهذان بلدان فخوران مذهلان في انطلاقة كل منهما في تطوّر سريع من البنية التحتية إلى الفضاء.

دولة الإمارات اختارت ثقافة بث الفضاء لتحقق أحلامها برجالها ونسائها، وهي لا تكف عن الريادة لرسم معالم المستقبل. دولة قطر قدّمت للعالم تكنولوجيا حديثة وسبّاقة في المباراة التي يراقبها العالم أجمع، وقامت ببناء شبكة من البنية التحتية الباهرة لاستضافة مريحة تخطّت التوقعات.

الحس الوطني لكل دول مجلس التعاون الخليجي، بل لكل الدول العربية، كان جميلاً، لا سيّما أن الرياضة فتحت أبواب الدبلوماسية والوفاق بعد الجفاء.

الكويت دولة اعتدال، فيها حرية حق التعبير وحقوق مدنية وسياسية، دورها على الصعيد العالمي هو دعم المبادرات الإنسانية. عُمان باتت قناة خلفية مهمّة للدبلوماسية العالمية سعياً إلى تقريب وجهات النظر والتغلّب على العراقيل والصعوبات لحل الأزمات مع دول الجوار. البحرين شقّت لنفسها مساراً للتعايش بين الأديان والطوائف واستضافت أخيراً قداسة البابا في زيارة تاريخية أبرزت مكانة البحرين عالمياً.

مسيرة الدول الخليجية الست لا تزال تدريجية، بعضها له سرعة يصعب اللحاق بها، وبعضها وتيرته بطيئة. مهمّ جداً أن تستمر المصالحة بين الدول الست بعد استعادة العلاقات بين السعودية وقطر ثم بين الإمارات وقطر، ولقد حان الوقت لحل المعضلة بين قطر والبحرين، وهناك مساع في هذا الاتجاه.

الوساطة المشتركة في إتمام عملية تبادل سجناء بين الولايات المتحدة وروسيا والتي نجح فيها ولي العهد السعودي والرئيس الإماراتي، إنما تؤكد بروز دور عالمي مميّز للدولتين والقيادتين، يعكس، ليس فقط الحنكة السياسية للشيخ محمد بن زايد والأمير محمد بن سلمان، بل أيضاً قدرتهما على بناء علاقات وصداقات مع دول كالولايات المتحدة وروسيا.

الثقة الاستراتيجية المتبادلة التي تحدّث عنها الرئيس شي جينبينغ في الرياض، إنما هي مشروع إيجابي يجب ألا يخيف واشنطن أو يزعجها، ما دام هناك جديّة واستمرارية وتماسكاً في الاستراتيجية الأعمق والأوسع بين الولايات المتحدة والدول الخليجية العربية. لكن حذار الاستهتار بكلمة الثقة ومعاني اختيار الرئيس الصيني لها في سياق العلاقات الاستراتيجية مع المنطقة العربية.

نقلا عن النهار العربي