عالم منهك. هكذا بدا لي العالم وأنا أراقب سلوك أكثرية الحاضرين في قمتي العشرين والمناخ. رأيت تناقضاً بين سلوك وأحياناً مزاج الحاضرين، وبين وجودهم في موقعين قل أن يتكرر جمالهما في مواقع أخرى. مؤلم جداً أن يحبسك الواجب السياسي أو الدبلوماسي داخل قاعة رائعة الذوق والأناقة وغابة من المقاعد المريحة وعلى مسافة غير بعيدة منها لوحات نادرة من طبيعة خلابة وعمارة يفوح منها عبق تاريخ طويل وعميق. عشت هذه التجربة قبل عقود عديدة في مؤتمر عقد بمدينة روما، عشتها مرة أخرى بعد سنوات غير قليلة في مؤتمر عقد في إسكتلندا، لكن في موقع أكثر بهاء وروعة من جلاسكو، عقد في إدنبره. في الحالتين، أي في روما أو إدنبره، لم يبد لي على وجوه المشاركين أنهم يمثلون عالماً منهكاً كالعالم الذي جاء منه المشاركون في قمتي العشرين والمناخ.
بدأ الأسبوع، أسبوع قمتين من أشهر القمم الدولية، بتصريح من بلينكن وزير خارجية الولايات المتحدة استخدم فيه كلمة «حاسم» في وصفه للعقد القادم. احترت في فهم قصد الوزير الذي لازم إلى حد كبير بعض مراحل صعود جو بايدن، وبالمناسبة كنت احترت من قبل في فهم القصد من تعمده تفادي الحديث عن النزاع الإسرائيلي الفلسطيني وهو وزير خارجية الدولة العظمى الأقوى تعلقاً بهذا النزاع وتدخلاً فيه. سمعت شرحاً مستفيضاً ومقنعاً من أكثر من صديق أمريكي هدأ حيرتي حول تفاديه الحديث عن موضوع فلسطين، ولم أسمع ما يهدئ حيرتي حول توقعه عقداً حاسماً في علاقات الدول بشكل عام وحالة العالم. مع ذلك يمكن أن نتفهم. إذ لم يحدث خلال العقود القليلة الماضية أن اجتمعت كارثتان رهيبتان، كورونا وسخونة الكوكب، تسببتا حتى الآن في وفاة الملايين وتشريد ملايين أكثر. لم يفلت من الأذى شعب أو إقليم. بل أستطيع مشاركة زملاء عديدين في القول إننا رأينا بالعين المجردة وبالدقة الممكنة كيف تعامل مختلف القادة السياسيين في غرب العالم وشرقه مع الكارثتين، كل بإمكانات مختلفة وإرادات متباينة ومجتمعات غير مؤهلة أو مستعدة.
لم أتفاجأ كثيراً لغياب الرئيسين الصيني والروسي ففي غالب الأحوال صارا يقللان جداً من السفر خارج بلديهما. إلا أن الغياب جرى تفسيره تفسيرات متعددة وبعضها يستحق الاهتمام وأكثرها لا يستحق اهتماماً كبيراً. قيل مثلاً إن الرئيسين تعمدا عدم المشاركة لتتحمل الولايات المتحدة وحدها مسؤولية عدم تنفيذ قرارات مؤتمر المناخ، وبخاصة القرارات التي ستصدر تحت ضغط الجماعة الأكاديمية الدولية وجماعات الشباب وقطاعات أخرى في المجتمع الدولي مثل الأمم المتحدة ويمثلها خطاب جوتيريس والجهة المضيفة للمؤتمر ويمثلها خطاب بوريس جونسون. قيل أيضاً إن المؤتمرين، قمتي العشرين والمناخ، سيتحولان إلى تظاهرتين هدفهما العمل على إزالة آثار مرحلة دونالد ترامب على وضع أمريكا القطب الأعظم في العالم وبالتالي يجدر بالزعيمين الصيني والروسي الابتعاد عنهما حرصاً على مكانة الدولتين وما حققتاه من إنجازات في نفوذهما الدولي خلال مرحلة أخرى من مراحل تدهور نفوذ أمريكا. قيل كذلك إن بايدن كان يعاني انحدار شعبيته بشكل مذهل خلال الأسابيع الأخيرة، فضلاً عن حلقات في مسلسل انكشاف قصور في كفاءة جهازه الذي رافقه لسنوات عدة.
لم يعد التوتر خافياً داخل الحلف الغربي وكذلك في العلاقات بين أمريكا وكثير من دول توصف بالصديقة لها والمعتمدة عليها. أزعم على سبيل المثال، وربما يكون للخبراء في تدقيق الصور وترجمة لغة الجسد زعم آخر، أزعم أن اللقاء الأشهر في الترتيب والإعداد بين الرئيسين بايدن وماكرون على هامش قمة العشرين لم يكن موفقاً، أو على الأصح، لم ولن يسمح للمياه أن تعود إلى مجاريها بين الدولتين. وبالصدفة، وإن كان في نظر آخرين تطور متوقع منذ البريكسيت، تدهورت العلاقة بين فرنسا والمملكة المتحدة حول حقوق الصيد.
أعود إلى سيرة أمريكا. لا أظن أن مستشاري بايدن أحسنوا صنعاً حين أشاروا إليه، أو سكتوا عن إدخال الدين عامداً متعمداً في لقاءاته السياسية كما حدث في لقائه مع بابا الفاتيكان.
لا تزال قصة انسحاب أمريكا من أفغانستان والحديث المتكرر عن قرارات للانسحاب من الشرق الأوسط وتصرفات متناثرة في السياسة الخارجية الأمريكية، لا تزال جميعها يثير أو يضاعف الشكوك في النوايا الأمريكية تجاه أمن المنطقة.
في جانب آخر يشكو قادة إسرائيل من أن إدارة الرئيس بايدن تمنعهم من اتخاذ قرار استخدام القوة المسلحة للقضاء على فرص تطور إنتاج السلاح النووي. من الواضح أن النية مبيتة لدى إدارة بايدن للتمسك بالحل الدبلوماسي والعقوبات الاقتصادية. يمكن طبعاً تفهم هذه النية إذا وضعت في سياق القرار الأمريكي الأشمل بالانسحاب من الشرق الأوسط وعدم التورط في أي مشكلة من مشكلاته. ولعل امتناع وزير الخارجية ومعاونيه عن التصريح بمواقف أو سياسات ترتبط بإسرائيل وفلسطين مصدره نفس السياق.
لن أجازف بالحكم على نجاح أو فشل المؤتمرين في تحقيق أهدافهما. أعترف بأن الأهداف في الأصل كانت متواضعة وبالتالي سيعتمد الحكم عليها على ضوء القليل الذي سينفذ من قراراتها. إنما يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار حقيقة بالغة الأهمية بالنسبة لمستقبل توازن القوة عند القمة. واقع الأمر أن الصين بغيابها أجلت اتخاذ القرار الأصعب المتعلق باللحظة التاريخية المناسبة لانتزاع حق صياغة، أو المساهمة في صياغة، قواعد عمل التنظيم الدولي، الحق الذي احتكرته الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
نقلا عن الخليج