قراءة في قمة بغداد – الحائط العربي
قراءة في قمة بغداد

قراءة في قمة بغداد



جاء انعقاد قمة بغداد في توقيتها وحضورها، ما يشير إلى خلفيات وتوقعات مثيرة للجدل. فهي أتت بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وفي وقت كثرت فيه الأحاديث في الكواليس الدبلوماسية عن نية واشنطن أيضاً، ترتيب انسحابها من العراق أو إعادة تنظيم وضعها. وبصرف النظر عن توصيف أو حدود التموضع الأمريكي، فنتائجه لا شك رئيسية في إعادة رسم سياسات المنطقة لجهة الأطراف الدولية أو الإقليمية الفاعلة فيها والقادرة على إسناد أدوار متميزة فيها.

ففي مقاربة تاريخية بسيطة بين الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، والانسحاب البريطاني من قناة السويس عام 1956، ومن شرقي القناة بداية السبعينات، نرى أن الأخير أدى إلى نشوء ما سمي بالفراغ الذي ملأته الولايات المتحدة آنذاك. اليوم خرجت أمريكا من كابول وإذا استتبعت ذلك بانسحاب من بغداد، يعني أن فراغاً سينشأ، وبالتالي من سيعبئه؟.

إن التدقيق في حضور القمة يظهر حضوراً فرنسياً لافتاً بشخص الرئيس ماكرون، وذلك يعد ذا دلالات أكثر من رمزية ليؤسس لصور أخرى. والسؤال الذي يطرح أيضاً، هل التموضع الفرنسي في المؤتمر ناجم عن قرار أمريكي لمسارات مستقبلية مرسومة، أم إنه مجرد إشارة سياسية لن توصل إلى مكان نوعي محدد؟

إن مقررات القمة وإن صيغت بعبارات دبلوماسية لا خلفيات قوية لها، كدعم عودة العراق القوي إلى السياسات الإقليمية الوازنة، ودعم الأطراف المشاركة في مكافحة الإرهاب، إلا أنها لم تُخف الحضور الفرنسي اللافت، إضافة إلى الحضور التركي والإيراني، وفي الوقت نفسه غياب الحضور اللبناني والسوري على الرغم من أنهما معنيان مباشرة بأي سياسات إقليمية ترسم للمنطقة، إلا إذا تُرك هذان الطرفان لترتيبات انضمام لاحقة تعكس تطورات مرتقبة.

وفي أي حال من الأحوال، وإن شهدت باريس في الفترة السابقة تشجيعاً أمريكياً ملموساً لجهة أدوار محددة بدأت بلعبها في لبنان مثلاً، وغيره، ولو بنسب أقل كليبيا، في مواجهة تركيا، إلا أن الحضور الباريسي في بغداد وبقرار أمريكي، ربما يخفي سياسات ستتبعها لاحقاً كبيئة تنافسية صينية فرنسية في المنطقة، ربما تنتهي بعودة أمريكية مدوّية أيضاً، لا سيما أن واشنطن سبق لها أن استعاضت عن حضورها المباشر في بعض مناطق العالم بحضور بديل يعمل لحسابها ولمصلحتها، وهو دور يمكن لباريس القيام به برضاها أو رغماً عنها.

لقد تكوّنت معطيات ووقائع ونتائج كثيرة حاسمة خلال العقدين المنصرمين في العراق ودول الجوار، وانعكس ذلك أيضاً على سياسات استراتيجية سعت إلى تنفيذها، على الرغم من الكثير من المعوقات التي واجهتها، من بينها الصعود الروسي الهائل في الشرق الأوسط عبر البوابة السورية، وكذاك الصعود الصيني في الشرق الأوسط عبر البوابة الإيرانية، وهي تحديات وازنة، فهل ستتمكن واشنطن من التأثير بها ولو عبر المقاعد الخلفية وترك باريس في واجهة الأحداث والمتغيرات.

إن طبيعة السياسة، كما الجغرافيا، تكره الفراغ، ولا بد من لاعب أو لاعبين فاعلين قادرين على ملء أي فراغ محتمل. بالأمس بدأ فراغ أفغانستان وسُلم الأمر لحركة طالبان، فهل سيتكرر الأمر في بغداد. إعادة التموضع الأمريكي الأول في العراق أواخر العقد الماضي نجمت عنها أحداث دموية هائلة بصعود تنظيم «داعش» وما رافقه من اختلال وانهيار نظم عربية كثيرة، مظاهر الفوضى بدأت في أفغانستان، فهل ستعم مناطق أخرى؟.

لا شك في أن قمة بغداد ستترك مسارات إقليمية سياسية واقتصادية، خاصة أن نوعية الحضور غير العربي لها دلالات كثيرة، من بينها محاولة هذه القوى حجز مواقع نافذة لها في الأدوار المنتظرة، وهي بطبيعة الحال نتاج موازين قوى، منها ما هو قائم ومنها ما يجري تركيبه وتنظيمه.

نقلا عن الخليج