غالباً ما ينظر إلى تمديد مراحل الانتقال السياسي على أنه مؤشر رئيسي لتعثر العملية السياسية، على نحو ما جرى في الحالة الليبية مع تأخر إجراء الانتخابات التي كانت مقررة في ٢٤ ديسمبر الفائت، وجرى أيضاً في الحالة التونسية، مع التصعيد الذي قامت به قوى المعارضة ضد قرارات الرئيس قيس سعيّد بتمديد الإجراءات الاستثنائية. لكن في المقابل، وبحكم التجربة العملية، بدأ يظهر اتجاه جديد لإصلاح أو تصويب المسار داخل العملية الانتقالية يقوم على أساس حل معضلة الفجوة ما بين استحقاقات خرائط الطريق الانتقالية، والسقف الزمني لتنفيذها. فبطبيعة الحال، شهدت الدول التي تجري فيها عمليات انتقال سياسي صراعات ونزاعات وأزمات سياسية متراكمة لفترة طويلة على نحو يصعب معه تنفيذ هذه العمليات خلال الفترة الانتقالية، خاصة إذا ما تم الالتزام بالجدول الزمني فقط، لاسيما وأن هناك ظاهرة عكستها أغلب تجارب عمليات الانتقال السياسي، تتمثل في أن الأطراف لا تضع في حسبانها هامش الظروف الطارئة أو غير المتوقعة. لكن في الوقت ذاته، يرى اتجاه آخر أنه لا يمكن التقليل من الإشكاليات التي قد تحد من استثمار الفرصة الثانية وبالتالي إحباط أهداف عملية التمديد.
دوافع متعددة
يستند الاتجاه الأول الداعي إلى ضرورة استثمار عملية التمديد لإنضاج الظروف المناسبة لإنجاح العملية السياسية إلى دوافع رئيسية أربعة يمكن تناولها على النحو التالي:
1- تصويب مسار العملية السياسية: ويقصد بذلك إيجاد فرصة ثانية لتلافي الأخطاء حتى يمكن إنقاذ العملية السياسية من الانتكاس، والعودة مرة أخرى إلى نقطة الصراع التي كان الهدف من المرحلة الانتقالية هو تفاديها، من خلال توافق الأغلبية، وبالتالي يتم الإبقاء على جدول الأعمال السياسي كما هو لكن مع تحسين الوضع أو التغلب على الظروف الطارئة، على النحو الذي أشارت إليه المفوضية العليا للانتخابات الليبية بـ”الظروف القاهرة”. فعلى سبيل المثال، اصطدمت المفوضية بثغرة قانونية تتعلق بإجراءات التقاضي للتعامل مع الطعون الانتخابية، وبالتالي تعين إعادة تشكيل المجلس الأعلى للقضاء، ومن ثم يمكن في المستقبل تفادي عملية الطعن التي يمكن أن تهدم نتائج أحد أهم استحقاقات خريطة الطريق على نحو ما جرى في انتخابات عام ٢٠١٢.
2- تعديل أولويات خريطة الطريق: وهو ما يهدف إلى تجنب انتكاسها بالكامل وليس مجرد تعثر استحقاق واحد. ففي الحالة الليبية، جرى التركيز طيلة الفترة الانتقالية على الاستحقاق الانتخابي فقط، في حين أن هناك ملفات أخرى مدرجة على خريطة الطريق مثل توحيد المؤسسة العسكرية. وعلى عكس ما كان متوقعاً من أن تقود عملية التمديد إلى صراع، فإن الأطراف المعنية بهذه الملفات تتقدم بخطوات عملية وتتقارب باتجاه إنهاء الانقسام. وينطبق ذلك أيضاً على إعادة إصلاح الخلل في الملفين الدستوري والمناصب السيادية، وهو قاسم مشترك أيضاً في الحالة التونسية. فالتمديد منح الرئيس هامش حركة في تعديل المسار بالكامل من خلال طرح عملية الاستفتاء على الدستور باعتباره الحل الممكن للمعالجة الجذرية لأخطاء ما قبل المرحلة الاستثنائية.
3- تصاعد تأثير القوى المؤيدة للإصلاح: تكشف ردود فعل الأطراف المنخرطة في حالات التمديد السياسي أن هناك متغيرات ضاغطة فرضت عملية التمديد، وقد كان القاسم المشترك في الحالتين الليبية والتونسية هو توافر الحد الأدنى من الاستجابة لهذا الاتجاه، على اعتبار أنه يمكن أن يتيح الفرصة الثانية بالفعل. صحيح أن هناك انقساماً في النخبة، لكن من الواضح أن ميزان القوى يميل إلى الأطراف المنحازة للإصلاح وتصويب المسار، وهو ما تعكسه مواقف تلك الأطراف من جهة، والاستطلاعات التي أشارت مؤخراً إلى حجم التأييد الكبير لقرارات الرئيس قيس سعيّد– ومنها استطلاع أجراه الاتحاد الأوروبي- من جهة أخرى. ورغم أن ذلك لا ينفي أن هناك أطرافاً تعارض هذا النهج على غرار الإخوان المسلمين – حركة “النهضة”- فإنه يظل أمراً متوقعاً بالنظر إلى أنها الخصم والمستهدف بالأساس لإصلاح الاختلالات التي تسببت فيها سياساتها في ظل سيطرتها السابقة على البرلمان.
4- توافق داخلي حول منع انتشار الفوضى: وقدبرز ذلك على نحو خاص في الحالة الليبية. فالتقارب الذي حدث بين القيادة العامة ورئاسة أركان غرب ليبيا، بالإضافة إلى مبادرة بنغازي التي دعا فيها المشير خليفة حفتر عدداً من المرشحين المحتملين للرئاسة، ومن أبرزهم فتحي باشاغا وزير الداخلية السابق، شكلا ضمانة أمنية تقطع الطريق على الأطراف الأخرى– المليشيات والفصائل المسلحة- لإشاعة الفوضى وجر القوى العسكرية إلى ساحتها.
عقبتان أساسيتان
مع ذلك، فإن هناك اتجاهاً آخر يرى أن التمديد قد يواجه عقبتين رئيسيتين هما:
1- التأثير السلبي لعامل الزمن: فالتعامل مع عملية التمديد على أنها عملية مطلقة باستمرار يُفقِد الثقة فيها، وقد يخل بقواعدها، ويرتب تداعيات عكسية. فقد أشارت ستيفاني وليامز المستشارة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا إلى ضرورة ألا تتجاوز عملية التمديد سقف ستة أشهر وإجراء الانتخابات بحلول يونيو المقبل باعتباره السقف الزمني المقرر لعملية الانتقال السياسي بالكامل من جانب مجلس الأمن، وبالتالي دعت إلى التركيز على أهداف أساسية تتعلق بالاستحقاقات الرئيسية وليس التعامل مع التطورات السياسية بشكل عام، مثل طرح عملية تشكيل حكومة بديلة لحكومة الوحدة الوطنية. وربما من قبيل المصادفة السياسية أن تونس هي الأخرى تتجه إلى إنهاء المرحلة الاستثنائية في الوقت نفسه، ومن ثم يظل في الأخير هناك جدول زمني مطلوب بشكل واضح لا يطرح الثقة في عملية التمديد.
2- قلب معادلة موازين القوى: لا شك أن القوى المُعارِضة لهذه التوجهات أو الساعية لإفشال المراحل الانتقالية بشكل عام ربما تستفيد من تلك الفترة في إعادة ترتيب أوراقها وتنظيم صفوفها لقلب معادلة موازين القوى أو فرض ظروف طارئة أو غير متوقعة جديدة في نهايتها لإفشالها. إذ تسعى حركة “النهضة” إلى حشد تأييد من القوى المُحبَطة من الأوضاع الاقتصادية في تونس. كذلك في ليبيا، هناك تحالفات جديدة طرحت في بداية الأمر إطالة أمد المرحلة الانتقالية لعامين، وهو ما تستفيد منه الحكومة، لكن التهديد الرئيسي هو التقارب مع المليشيات والفصائل المسلحة التي ترى مصالحها في استمرار الوضع القائم وتعتبر أن تغييره بشكل جذري قد يُقوِّض هذه المصالح. ويفرض هذا السياق في الأخير مراعاة معادلة العامل الزمني وتطور موازين القوى حتى لا تخرج فترة التمديد عن السيطرة، فهي فرصة ثانية للإصلاح والتصويب، لكنها قد تكون فرصة أخيرة في الوقت ذاته.
بالإضافة إلى ما سبق، من المؤكد أن هناك عوامل أخرى لا تتعلق باللاعبين السياسيين فقط. إذ تمارس التدخلات الخارجية دوراً في تحديد تداعيات تمديد مراحل الانتقال السياسي. فعلى سبيل المثال، فإن استجابة القوى الدولية المنخرطة في الملف الليبي لتمديد العملية الانتقالية مع التحذير من فقدان زخم الاستحقاقات أدت إلى تجنب عملية الاستقطاب الخارجي وإفشال المرحلة الانتقالية على غرار ما حدث في السابق خلال مرحلة الوفاق. كما أن الحد الأدنى المطلوب لتوافق القوى الخارجية على ضمان إنهاء عملية الانتقال السياسي متوافر في الحالة الليبية، بل إن بعض الأطراف أقدمت على التعاطي مع الالتزامات المطلوبة منها لدعم اللجنة العسكرية المشتركة وسحب عدد من المرتزقة والمقاتلين الأجانب كبادرة أوَّلية على إظهار حسن النوايا.
ضوابط مهمة
في المحصلة الأخيرة، يمكن القول إن اتجاه استثمار الفرصة الثانية في إطار عملية التمديد هو اتجاه واعد حتى الآن في ملفات الأزمات السياسية التي دخلت مسار عملية الانتقال السياسي وفرضت عليها الظروف إطالة أمد هذه المرحلة، بما لا يعني بالضرورة الحكم بأن عدم إتمام عملية الانتقال السياسي في الموعد المخطط له عند وضعها يعني تعثرها وفشلها، لكنه قد يعني بالضرورة أيضاً أن هذه العملية ليست مطلقة بشكل عام وإنما تخضع لضوابط ربما أكثر حزماً وأكثر وضوحاً في الأهداف والغايات، وهو ما يختلف عن مسار “التعديل” الذي يعني إجراء تغيير جذري في جدول أعمال عملية الانتقال السياسي.