هناك بُعد آخر للتطورات التي يشهدها العالم حالياً في سياق صراع الشرق والغرب ومحاولة ترسيخ «نظام عالمي جديد» تتنازعه مصالح أمريكا والغرب من ناحية، والصين والشرق من ناحية أخرى. لا يتعلق ذلك بسعي الصين وروسيا لتغيير توجه العالم أحادي القطبية الذي تقوده الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة إلى عالم متعدد الأقطاب، فذلك التوجه على الساحة الدولية ليس بجديد، وإن كانت أزمة حرب أوكرانيا أعطته دفعة قوية. خاصة وأن الإدارة الأمريكية الحالية أعلنت خلال حملة الرئيس جو بايدن في انتخابات 2020 أن استراتيجيته الرئيسية هي مواجهة صعود الصين وروسيا وأن يكون ذلك عبر تحالف غربي واسع تقوده واشنطن بما يعزز الدول الدولي لأمريكا.
البعد الذي أقصده يتعلق بأن القوى الصاعدة تستند إلى دول قوية، خاصة الصين التي رغم التغيرات فيها منذ ثمانينات القرن الماضي على يد الرئيس الراحل دنغ شياو بنغ. حتى روسيا، ورغم مظاهر الديمقراطية التي صاحبت التحول الرأسمالي فيها محكومة أيضاً بإدارة مركزية قوية خاصة مع استعادة دور الدولة بعد صعود الرئيس فلاديمير بوتين مطلع هذا القرن.
يختلف ذلك جذرياً عن محاولات الولايات المتحدة ترسيخ نظام عالمي جديد في نهايات القرن الماضي، والتي صاحبتها ملامح بروز للجماعات على حساب الدول المركزية.
كانت تلك فترة برزت فيها أيضاً جماعات مؤدلجة في أنحاء أخرى من العالم، منها في منطقتنا جماعة الإخوان والتنظيمات الإرهابية المنبثقة عنها من القاعدة في أفغانستان وباكستان إلى داعش مؤخراً في سوريا والعراق مروراً بجماعات مسلحة في مصر والجزائر وليبيا والسودان ونيجيريا ومالي وغيرها والفلبين وغيرها.
وفي الغرب، تصاعد نمو جماعات متطرفة من اليمين المتشدد إلى اليسار الفوضوي تكاد تقترب في ملامحها من جماعات التطرف والإرهاب وتشترك معها في كثير من الخصال. كل ذلك كان على حساب الدولة المركزية، أياً كانت طبيعتها وشكلها السياسي. ومع فشل التدخل العسكري الاستباقي، كما حدث في أفغانستان والعراق وغيرهما، كوسيلة أمريكية/غربية لفرض ذلك النظام العالمي الجديد بدأت موجة ما سمي «الفوضى الخلاقة» بتغيير الأنظمة عبر احتجاجات داخلية مدعومة غربياً. أولاً في أوروبا الشرقية والوسطى بما سمي «الثورات الملونة» عبر احتجاجات شعبية واسعة تنطلق لأسباب فئوية أو مطالب حياتية وتتطور إلى قلب الأنظمة والإتيان بحكم موالٍ لأمريكا والغرب. ثم بعد ذلك ما سمي «الربيع العربي» مطلع العقد الماضي، والذي انتهى أيضاً بحروب داخلية وتدمير مقدرات دول وإضعاف أخرى.
في كل تلك التطورات كانت الجماعات المتطرفة والمدعوة «ليبرالية»، عاملاً أساسياً يستهدف القضاء على الدولة المركزية حتى كاد كثير من الدول يتحول إلى «دول فاشلة» مثلما حدث في الدول التي تعرضت للغزو والاحتلال العسكري الأمريكي والغربي.
ما يحدث الآن، هو أن القوى التي تستند إلى دولة مركزية قوية لم تتأثر بتلك المحاولات لإعلاء الجماعات، أياً كانت تلك الجماعات، على حسابها هي التي تعمل على ترسيخ نظام عالمي جديد عكس ذلك الذي عمدت الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى ترسيخه منذ عقود. وإذا كتب لهذه المحاولات النجاح، فسيكون ذلك توجهاً مهماً نحو عودة الدولة على حساب الجماعات.
قد لا نشهد نظاماً عالمياً جديداً متعدد الأقطاب، كما ترغب الصين وروسيا وغيرهما، لكن التطورات الحالية لن تذهب بلا أثر. على الأقل يمكنها أن توقف ذلك المسار الذي بدأته الولايات المتحدة قبل أربعة عقود في إضعاف الدول لصالح الجماعات. بل ربما يمتد التأثير إلى الغرب نفسه ليستعيد دور الدولة بعدما تعرضت له من بروز الجماعات والتيارات الهامشية على حساب القوى التقليدية من التيارات السياسية الرئيسية.
ولعل منطقتنا، كما هو قدرها تاريخياً أن تكون في قلب الأحداث الدولية، تستفيد من ذلك التوجه في استعادة دور الدولة الذي أضعفته محاولات وتدخلات كثيرة في العقدين الأخيرين.
نقلا عن الشرق الأوسط