في ظل الجهود المبذولة لتسوية الأزمة السياسية القائمة في السودان، أعلنت الأطراف الموقّعة على الاتفاق الإطاري في ديسمبر الماضي، الانتهاء من المسودة الأولية للاتفاق السياسي النهائي المقرر التوقيع عليه في الأول من أبريل القادم، حيث تم تسليم هذه المسودة للأطراف السودانية برعاية الآلية الثلاثية، والتي حددت الفترة الانتقالية بعامين، والاتفاق على تشكيل حكومة مدنية، وصياغة دستور انتقالي، وتشكيل جيش موحد بعد دمج قوات الدعم السريع. إلا أن هناك بعض العقبات التي تقف أمام تنفيذ هذا الاتفاق، ومن أبرزها رفض المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير ضم “قوى الحرية والتغيير – الكتلة الديمقراطية” لهذا الاتفاق، وتهديدات الحركات المسلحة بإسقاط الحكومة المدنية، وعدم حسم مسألة الإصلاح الأمني والعسكري، واتهام الجيش بعدم المصداقية في تنفيذ التزاماته، واستمرار الأوضاع الأمنية غير المستقرة، وتضارب المصالح وغياب الثقة بين الأطراف السودانية المختلفة.
تسلمت الأطراف السودانية الموقّعة على الاتفاق الإطاري “مسودة الاتفاق النهائي” وذلك خلال اجتماع تم عقده في 26 مارس 2023 بالخرطوم، حيث ترأسه الفريق أول ركن “عبد الفتاح البرهان” رئيس مجلس السيادة الانتقالي قائد الجيش، وبمشاركة ممثلين عن القوى السياسية والمهنية وحركات الكفاح المسلح الموقعة على الاتفاق الإطاري في 5 ديسمبر الماضي، وبحضور الآلية الثلاثية الميسرة للعملية السياسية (البعثة الأممية المتكاملة للمساعدة في الفترة الانتقالية “يونيتامس” – الاتحاد الأفريقي – منظمة الإيجاد)، وتم الاتفاق على أن تبدي كافة الأطراف ملاحظاتها على هذه المسودة الأولية بحلول 29 مارس الجاري، والتوقيع عليها في الأول من أبريل القادم، والتوقيع على مشروع الدستور الانتقالي في 11 أبريل أيضاً.
مسودة أولية
أوضح الناطق الرسمي باسم العملية السياسية “خالد عمر” أن ذلك الاجتماع شهد تسلم كافة الأطراف بصورة رسمية “المسودة الأولى للاتفاق النهائي” والتي تتكون من ستة أجزاء تشمل الاتفاق السياسي النهائي المبني على الاتفاق الإطاري، مضافاً إليه بعض التفاصيل المتعلقة بهياكل السلطة الانتقالية المدنية، وخمسة أجزاء أخرى عبارة عن بروتوكولات للقضايا الخمس، ومن أبرز بنود هذه المسودة، ما يلي:
1- تحديد الفترة الانتقالية بمدة 24 شهراً: إذ تضمّن الاتفاق تفاصيل دقيقة حول مهام الحكومة وتقسيماتها والبروتوكولات المتصلة بالقضايا الخمس التي تم الاتفاق على مناقشتها بصورة أوسع، والتي انتهى النقاش في أربع منها (العدالة الانتقالية، تفكيك النظام السابق، تقييم اتفاق السلام، حل أزمة الشرق) في مجموعة من ورش العمل والمؤتمرات التي بدأت في ٩ يناير ومستمرة حتى الآن، كما حددت المسودة عدد أعضاء مجلس الوزراء بـ26 وزيراً، واشترطت في اختيارهم الكفاءة والتأهيل المناسب، على أن يتم تشكيل الحكومة الجديدة في 11 أبريل القادم.
2- هيكلة السلطة السيادية: إذ إن المسودة الأولية لم تحسم مسألة هيكلة السلطة السيادية بالإبقاء على مجلس سيادي أو رأس دولة، وهو ما تم تركه ليتم حسمه بالتوافق بين الأطراف المختلفة خلال الأيام القادمة، على أن تتضمنه المسودة النهائية للاتفاق.
3- تشكيل جيش مهني واحد: حيث نصت المسودة الأولية للاتفاق على تشكيل جيش نظامي واحد، وأكدت على ضرورة دمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة من خلال عملية الإصلاح الأمني والعسكري وفقاً لجداول زمنية محددة يتم الاتفاق عليها.
4- استكمال المؤسسات الدستورية: تنص المسودة الأولية على أهمية تشكيل مجلس تشريعي في إطار استكمال بناء المؤسسات الدستورية للدولة، إلا أن المسودة أبقت عدد أعضاء البرلمان الذي سيتم تشكيله، غير محدد، واقترحت أن يتم تشكيله من 150 إلى 300 عضو، إلا أنها خصصت 25% من مقاعد المجلس التشريعي لأطراف العملية السلمية، و75% تُسميها القوى السياسية والمدنية والمهنية الموقعة على الاتفاق السياسي النهائي ولجان المقاومة.
5- تحقيق العدالة الانتقالية: من أبرز المسائل التي تم التأكيد عليها في المسودة الأولية للاتفاق النهائي، تحقيق العدالة الانتقالية، وهو المطلب الذي تطالب به القوى السياسية المدنية ولجان المقاومة، وذلك من خلال تقديم المتورطين في قتل المتظاهرين السلميين للمحاكمات العادلة؛ إلا أن هذا الأمر يزعج بعض قادة الجيش والسلطات الأمنية من المتورطين في هذه الجرائم والذين يخشون على مستقبلهم داخل المؤسسة العسكرية.
6- علاج الأزمة الاقتصادية: أكدت المسودة الأولية للاتفاق أيضاً على ضرورة إيقاف التدهور الاقتصادي ومواصلة عملية الإصلاح، وفق نهج تنموي يعالج الأزمة المعيشية، وينحاز للفقراء، ويحقق ولاية وزارة المالية على المال العام ويحارب الفساد.
7- الإعداد للتوقيع النهائي: شهد الاجتماع أيضاً الاتفاق على إكمال مسودة الاتفاق النهائي يوم ٢٩ مارس الجاري، بهدف الإيفاء بالتوقيت المتفق عليه للتوقيع النهائي على الاتفاق والمقرر له في الأول من أبريل 2023.
عقبات قائمة
رغم الحديث عن استعداد القوى السياسية والمدنية للتوقيع على الاتفاق السياسي النهائي، إلا أن هناك بعض العقبات التي تقف في طريق ذلك الأمر، ومن أهمها ما يلي:
1- الخلاف حول توسيع قاعدة المشاركة: من أبرز عقبات التوصل إلى اتفاق سياسي شامل يحظى بقبول كافة القوى السياسية المدنية، هو رفض بعض الحركات المسلحة والأحزاب السياسية وخاصة “حركة تحرير السودان” بقيادة “مني أركو مناوي” و”حركة العدل والمساواة” بزعامة “جبريل إبراهيم” والحزب “الاتحادي الديمقراطي – جناح جعفر الميرغني”، والانضمام منفردة إلى الاتفاق النهائي وتشترط انخراط كافة الحلفاء في “قوى الحرية والتغيير – الكتلة الديمقراطية” والتي تضم نحو 16 تنظيماً، حيث ترى الكتلة الديمقراطية أن التسوية السياسية بصورتها الحالية تعد تكراراً للأخطاء السابقة التي حدثت في المرحلة الانتقالية السابقة، ولن تؤدي إلى الاستقرار المنشود، إلا أن ذلك الأمر يرفضه “ائتلاف قوى الحرية والتغيير” الذي ينظر إلى تلك الأحزاب باعتبارها امتداداً للنظام السابق، وأنها تمثل وجهة نظر المكون العسكري.
2- تهديدات الحركات المسلحة: أصدرت حركة العدل والمساواة بزعامة “جبريل إبراهيم” تهديدات بإسقاط أي حكومة مدنية سيتم تشكيلها وفقاً للاتفاق السياسي المزمع التوقيع عليه في الأول من أبريل القادم، وأشارت الحركة إلى أن كل الخيارات مفتوحة، كما هددت “حركة جيش تحرير السودان” قيادة “مني أركو مناوي” بالخروج للشارع، وتعبئة وحشد الرأي العام السوداني بغرض تشكيل جبهة عريضة لإسقاط التسوية السياسية، ورفضاً لتشكيل حكومة جديدة بناء على هذه التسوية. وحمّلت الحركتان الأطراف الموقعة على الاتفاق الإطاري، وخاصة المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير، مسؤولية تداعيات فرض هذا الاتفاق كأمر واقع على باقي الأحزاب والقوى السياسية والحركات المسلحة في البلاد، وفي ذلك مؤشر هام على طبيعة التحديات السياسية والأمنية التي ستشهدها فترة ما بعد التوقيع على الاتفاق النهائي والصعوبات التي ستواجهها عملية تنفيذه.
3- عدم حسم إشكالية الإصلاح الأمني والعسكري: لا تزال إشكالية إصلاح المؤسسات الأمنية والعسكرية قيد الدراسة والاتفاق بين المكونين المدني والعسكري، حيث بدأت ورشة العمل الخاصة بالإصلاح الأمني والعسكري في 26 مارس الجاري لمدة أربعة أيام، والمخصصة لمناقشة إشكالية دمج قوات الدعم السريع في الجيش، ومن المقرر الانتهاء من هذه الورشة في 29 مارس الجاري، وحتى الآن لا يزال الجدل المثار حول هذه المسألة قائماً داخل البلاد، وذلك رغم تصريحات الفريق “البرهان” ونائبه “الجنرال حميدتي” بأهمية دمج قوات الدعم السريع في الجيش لتشكيل جيش موحد. وفي السياق ذاته، توجد معارضة قوية من قبل “قوى الحرية والتغيير – الكتلة الديمقراطية” لانعقاد ورشة الإصلاح الأمني والعسكري، متهمة المشاركين فيها بغير المتخصصين وشخصيات غير منتخبة ومشاركة سفراء لدول أجنبية، وهو أمر مرفوض باعتباره تدخلاً في الشؤون الداخلية للبلاد.
4- اتهام الجيش بعدم المصداقية: تتهم بعض الأطراف السودانية، ومنها حزب البعث العربي الاشتراكي، المكون العسكري بعدم المصداقية في تنفيذ الوعود الخاصة بتنفيذ الاتفاق الإطاري والانسحاب من العملية العسكرية، وأن التسوية السياسية الحالية تُعد مكسباً لقائد الجيش الفريق أول ركن “عبدالفتاح البرهان” من حيث كسب المزيد من الوقت للمماطلة وإنهاء القوى السياسية المدنية، وذلك لتحقيق هدف رئيسي هو البقاء على رأس السلطة الانتقالية، خاصة وأن المكون العسكري لم يصل إلى قناعة تامة بالتخلي عن السلطة للقوى السياسية المدنية. ويستند المشككون في مصداقية المكون العسكري إلى التصريحات المتناقضة التي يطلقها الفريق “البرهان” ووضعه شروطاً صعبة التحقق، مثل التوافق التام بين كافة القوى السياسية والمدنية، واشتراط دمج قوات الدعم السريع في الجيش، ثم العودة والإعلان عن انسحاب الجيش من العملية السياسية.
5- تدهور الأوضاع الأمنية في دارفور: لا تزال الأوضاع الأمنية المتدهورة في بعض الولايات السودانية، وخاصة في إقليم دارفور، من أبرز التحديات التي تواجه تنفيذ الاتفاق السياسي المزمع التوقيع عليه في الأول من أبريل القادم، فخلال الأيام القليلة الماضية تجددت الاشتباكات القبلية والعرقية المسلحة في ولاية غرب دارفور، وترتب عليها مقتل 6 أشخاص، ولجوء حوالي 30 ألفاً آخرين إلى دولة تشاد المجاورة هرباً من أعمال العنف المتصاعدة هناك، وقد ساهم التأخر في تنفيذ اتفاق جوبا للسلام الموقّع بين الحكومة الانتقالية السابقة والجبهة الثورية في عام 2020، في تجدد هذه الاشتباكات واستمرار حالة السيولة الأمنية في إقليم دارفور، وستظلّ هذه الأوضاع الأمنية المنفلتة من أبرز التحديات التي ستقف أمام تنفيذ الاتفاق السياسي القادم، وخاصة فيما يتعلق بالشقّ الأمني منه وفرض سيادة الدولة، حيث لم تستطع الدولة السودانية خلال العام الماضي وقف هذه الصراعات التي ترتب عليها مقتل 991 شخصاً ونزوح 310 آلاف آخرين.
6- تضارب المصالح وغياب الثقة بين الأطراف السياسية المختلفة: من ضمن التحديات التي ستقف أمام تنفيذ الاتفاق السياسي النهائي تبادل الاتهامات بين الأطراف السودانية المختلفة، بشكل يعبر عن تضارب المصالح، حيث توجد اتهامات للمكون العسكري والكتلة الديمقراطية برغبتهما في توسيع المشاركة السياسية، وضم أكبر عدد من الأحزاب والقوى السياسية للتوقيع على الاتفاق النهائي، وأنه كان بغرض إتاحة الفرصة لحزب المؤتمر الوطني “المنحل” للعودة مرة أخرى للمشهد السياسي، وهو ما يتيح المجال للتشجيع على الفساد السياسي، وزيادة عدم ثقة الشعب السوداني في السلطات الانتقالية.
حجرة عثرة
الخلاصة، رغم المؤشرات الدالة على قرب توقيع الأطراف السودانية على الاتفاق النهائي للتسوية السياسية، إلا أن غياب التوافق وعدم المصداقية والإصرار على إقصاء فصيل سياسي بعينه (الكتلة الديمقراطية) والتي تمادت في اعتراضها على بنود الاتفاق السياسي، سوف يزيد من تعقيد الأزمة، وحتى إن تم التوقيع على الصيغة النهائية لهذا الاتفاق فستظل هذه القوى بمثابة حجر عثرة أمام تنفيذه على أرض الواقع.