لم تصل الأزمة السياسية العراقية إلى تسوية حتى مع تراجع حدة التوتر في المشهد السياسي. فعلى الرغم من خروج التيار الصدري من حسبة تعقيدات تشكيل الحكومة والبرلمان، ولا سيما بعد أن قررت المحكمة العليا صحة إجراءات استبدال نواب الإطار التنسيقي محل نواب الكتلة الصدرية المستقيلة، ثم انعقاد جلسة برلمانية تفادت أزمة جديدة وهي استقالة رئيس البرلمان محمد الحلبوسي؛ إلا أن عملية تشكيل الحكومة لن تتم بشكل نهائي قبل حل أزمة منصب رئيس الجمهورية العالقة ما بين الأحزاب الكردية.
واللافت في هذا السياق، هو أن هذه الأزمة كانت في طريقها للتسوية تقريباً بالتوازي مع مساعي إنهاء أزمة الحكومة بتشكيل ائتلاف إدارة الدولة. لكن هذه الأزمات تشابكت مع تطور غير متوقع، تمثل في التصعيد الإيراني في إقليم كردستان والذي ستكون له انعكاساته على فرز المواقف السياسية داخل الائتلاف الجديد، ومن ثم ستكون له تداعياته على ترتيبات العملية السياسية برمتها.
إشكاليات رئيسية
على هذا النحو، لم تعد مؤشرات الخروج من المأزق السياسي العراقي واردة بشكل سلس وفقاً لما كان متوقعاً، بل على العكس من ذلك، يبدو أن المشهد باتجاه الاستدارة إلى ملفات جديدة من الأزمات الفرعية والتعقيدات التي ستساهم بدورها في ترحيل تسوية الأزمة، وهو ما يمكن تفصيله في بعض النقاط الإشكالية على النحو التالي:
1- التصعيد الإيراني في العراق: وهو التطور الذي سيفرض تداعيات متعددة المستويات، منها الفجوة المحتملة داخل ائتلاف إدارة الدولة- الكيان السياسي الأحدث في العراق الذي جمع الحزبين الكرديين تحت مظلة واحدة مع قوى الإطار التنسيقي- في ضوء موقف قُوى التنسيقي من الهجمات الإيرانية على إقليم كردستان، والتي تشكل أول اختبار لهذه العلاقة بين الطرفين، والذي ربما سيحكم على مدى تماسك أو هشاشة هذا الكيان الجديد.
لكن كمؤشرات أوّلية، لم تبادر قوى التنسيقي بإدانة الموقف الإيراني على غرار العديد من الأحزاب الأخرى داخل الائتلاف والتي ساندت الموقف الكردي، ونددت بانتهاك إيران للسيادة الوطنية العراقية. كما تحرك رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي في المسار ذاته بالتوجه إلى إقليم كردستان لبحث الموقف السياسي والتنسيق الأمني مع حكومة الإقليم، في أعقاب اتخاذ إجراءات دبلوماسية لإدانة الهجمات الإيرانية، وهو ما يلفت الانتباه بشكل مبكر لدى القوى الكردية بأن حكومة تهيمن عليها قوى مقربة من إيران لن تتخذ الموقف ذاته.
2- ارتباك مسار الحوار الوطني: تعددت مسارات الحوار الوطني، ما بين الحوار تحت رعاية الحكومة، وهو المسار الذي تراجع لصالح مسار موازٍ أسفر عنه ائتلاف إدارة الدولة، ويدلل على هذا التراجع عدم تلبية دعوة الكاظمي لجلسة حوار ثالثة كان قد دعا إليها لدى مشاركته في فعاليات الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل نحو أسبوع، ثم عاد رئيس البرلمان محمد الحبلوسي ليقدم صيغة “وثيقة بغداد” الأقرب إلى بناء عقد سياسي جديد قائم على التوافق عبر آلية الحوار ما بين القوى داخل البرلمان وخارجه في إشارة إلى التيار الصدري، مشيراً إلى تجاوز التيار الصدري للأزمات السابقة الخاصة بانعقاد البرلمان وتسمية محمد شياع السوداني رئيساً للوزراء.
إلا أنه لا يعتقد أن تلك الصيغة قابلة للتحقق من جهة أخرى، فبالنسبة لبعض قوى الإطار، لا سيما الجناح الذي يقوده رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، فإنها ترى أن الصدريين خارج المعادلة السياسية، على عكس مواقف أطراف أخرى داخل الإطار، كتيار الفتح بقيادة هادي العامري، ترى عكس ذلك. وبالتبعية ثمة عدد أكبر من الأطراف داخل ائتلاف إدارة الدولة يرون أن التيار الصدري خرج مؤقتاً من حسابات السلطة وليس من المعادلة السياسية؛ بل إنّ بعض هذه القوى يطالب التيار بالمشاركة في الحكومة، وبالتالي يتوقع أنه رغم التوافقات التي تحققت خلال الفترة السابقة فإنها لا تزال هشة، لا سيما وأنها لم تعتمد على الحوار والتوافقات الفعلية قدر اعتماد منطق الصفقات والحسابات السياسية الضيقة.
3- الأزمة الكردية ومنصب الرئاسة: من فترة لأخرى تخرج تصريحات من الحزبين الكرديين تشير إلى احتمالات التوصل إلى تسوية سياسية، وأن ثمة مقاربة للتسوية نضجت بين الحزبين لتفادي الأزمة التي تتمحور حول رغبة الحزب الديمقراطي في تغيير التقليد السياسي المتبع منذ 2005 بتعيين رئيس كردي من الحزب الاتحادي مقابل بقاء الديمقراطي كحاكم على سلطة الإقليم، وهي أزمة لا تختلف عن بقية الأزمات الأخرى بالنسبة للمناصب السياسية التي تحولت إلى تقليد سياسي يحكمها العرف أكثر من القانون، كأحد أبعاد الأزمة الراهنة على كافة المستويات ولا تنحصر فقط في السياق الكردي.
ومن جهة أخرى، يعلن بعض النواب عن أن الأزمة ستحل في سياق البرلمان، وبالتالي تُرحَّل إلى التصويت عليها لحسمها، إلا أن التركيبة الحالية لتكتل إدارة الدولة المهيمن على البرلمان، وهي الكتلة التي تضم الطرفين، ربما ستضاعف من هذه الأزمة بدلاً من حلها مع انضمام الكتلتين إلى ائتلاف واحد من الصعوبة أن ينحاز لأي من الطرفين.
4- اتساع نطاق الهشاشة الأمنية: والتي كشف عنها انفجار الوضع الأمني في المنطقة الخضراء مجدداً مع انعقاد جلسة البرلمان، على نحو أكد وجود أطراف أخرى خارج التوافقات بخلاف التيار الصدري، تعارض هذه التوجهات السياسية، وتسمي القوى السياسية من يقف وراء هذه العمليات بـ”الطرف الثالث” كمحاولة لإلقاء التبعة على طرف مجهول.
وزاد من هذا المشهد الشعارات التي رفعت خلال ذكرى “انتفاضة تشرين” التي استعادت شعار “الشعب يريد إسقاط النظام”، وهو الشعار الذي يستهدف تلك التوافقات الجديدة، كما صدرت رسالة أخرى مفادها أن الشارع الذي قاد انتفاضة لم يكن طرفاً مرة أخرى في المعادلة السياسية التي تمرر كصفقات ما بين النخب ذاتها التي خرج للانتفاضة عليها في مشهد مماثل.
سيناريو مأزوم
تكرس هذه الإشكاليات لسيناريو مأزوم، حتى وإن تم التوصل إلى صيغٍ ما لتفاهمات لحل الأزمة السياسية لا يبدو أنها متماسكة وقادرة على العبور بالمشهد من أزمته العميقة التي تطال جذور طبيعة تكوين وآليات تشكل النظام السياسي العراقي، مع إسقاط مطالب محورية مثل الحاجة إلى عقد اجتماعي جديد يغير الواقع العراقي، ولا يختزله في المشهد السياسي فحسب بالنظر إلى مؤشرات السيادة الوطنية التي أصبحت قضية متداخلة في كافة ملفات الشأن العام وكافة القضايا السياسية، إلى مؤشرات حالة الفساد السياسي لصيقة الصلة بإرث إدارة الدولة، ثم إشكالية غياب حوكمة الهياكل الأمنية مع استمرار تنامي دور المليشيات والفصائل المسلحة، والتي ترسخت عبر مسارات التصادم التي شهدها الشارع العراقي على وقع الخلاف السياسي.