ما سوف يلي مخالف لما هو ذائع حول المشهد العالمي والآخر الإقليمي؛ وفي الأول فإن تطورات «الأزمة» الأوكرانية تبدو مزعجة، وفيها من الأقوال والتصريحات والحشود العسكرية والدعوة إلى تغيير الأمر الواقع ما يخلق توتراً مستمراً، يستدعي مشاهد سابقة لحرب باردة ظنها الجميع ذهبت إلى غير رجعة.
وفي الإقليمي، للعقد الثاني على التوالي، بعد نوبات «الربيع العربي»، فإن ما انكسر لا يزال منكسراً، وما شجع الخلل فيه من تدخلات أجنبية تجري على قدم وساق، ليس تصريحات وتهديدات فقط، وإنما نار ولهب. وفي خلفية المشهدين توجد عفاريت وجان جاءت من تكنولوجيات سيبرانية، وطائرات مُسيَّرة، وصواريخ تستهدف التسويق لجماعات إرهابية تتبناها دول إقليمية، عازمة على الكسب نفوذاً وآراء وآيديولوجية، وتغيير الأمر الواقع إلى واقع آخر مغامر وسافر.
ما ظهر حتى الآن من الإعلان الأميركي عن توجيه ثلاثة آلاف من القوات الأميركية إلى مسرح العمليات الأوروبية، بعيداً عن أوكرانيا؛ وتوجيه قوات وقدرات جوية أخرى إلى دولة الإمارات، كلها رسائل إلى أن هناك حدوداً للتمدد الروسي والإيراني. في المقابل، فإن روسيا تعيد صياغة الأمن الإقليمي مرة أخرى، كما لو كان الاتحاد السوفياتي و«حلف وارسو» قد سقطا بالأمس، وآن أوان إعادة ترتيب الأوضاع من جديد.
القول الشهير لفلاديمير بوتين، بأن سقوط الاتحاد السوفياتي كان أكبر خطأ جيو سياسي في القرن العشرين، ربما يكون عاكساً لواحد من أمرين: تصحيح الخطأ بعودة الاتحاد السوفياتي مرة أخرى، وساعتها فإن القرم وأوكرانيا، ومن قبلها جورجيا، تصبح حلقات في رحلة عودة محسوبة؛ أو أن تعود روسيا الإمبراطورية إلى مكانتها في الساحة الأوروبية، وتحالفاتها مرة أخرى. أياً كان الغرض من القول، فإنه في الأول والآخر جزء من عملية لتصحيح ما جرى ساعة نهاية الحرب الباردة، قبل أكثر من ثلاثين عاماً، وسط ظروف جديدة كان منها ما هو عالمي له علاقة بالجائحة، وبعضها الآخر ما هو إقليمي ترنحت فيه القارة الأوروبية من ساعة «بريكست» وما بعدها، وبعضها محض محلي له علاقة بالنظم السياسية للقوى العظمي.
هذا العامل الأخير في المعسكر الغربي كله، وضع الفكرة الديمقراطية والغربية في الاختبار، ما تعلق فيه بالكفاءة، وما نتج عنه من سياسات داخلية وخارجية، وما بدا عنه من انقسامات وشروخ فكرية وسياسية. فقد بدأت الألفية الثالثة والدولة الأميركية هي القطب الأعظم في العالم، والذي يحكمه جورج بوش الابن قائداً لجماعة «المحافظون الجدد» المصممين على أن يكون القرن الحادي والعشرين قرناً أميركياً خالصاً.
انتهى الأمر بعد أقل من عقد على فشل كامل، في الحرب ضد الإرهاب، والثمن الفادح للدخول وبعد ذلك الخروج من أفغانستان والعراق، والشرق الأوسط بينهما. ولكن بعد أقل من عقد من تولي أميركا قيادة العالم، تولى باراك أوباما الديمقراطي السلطة وهو يرى أن مشكلة العالم هي تجاوز الولايات المتحدة لحدودها وقدراتها. ورغم المعرفة الجيدة بثمن التجاوز، فإن تقليص الدور الأميركي بدا وسط الساحة الاستراتيجية الأميركية أسيراً لفلسفة «التصعيد أو Surge» لعله يكسب الحرب أو -وهو الأهم- يتيح أفضل الإطارات للتفاوض.
وفي 2016 تولى دونالد ترمب الإدارة الأميركية، وما أسفر عنه من موجة يمينية محافظة تقوم على العزلة، وأن «الدولة –أميركا– أولاً»؛ وسرعان ما انتشرت في عديد من دول العالم في أوروبا (بريطانيا) وأميركا الجنوبية (البرازيل) وآسيا (الهند).
وفي 2020 نجح الديمقراطيون الأميركيون في استعادة السلطة مرة أخرى تحت قيادة بايدن، الذي عبَّر عن رغبته في إعادة صياغة العالم وفق معادلة «الديمقراطية في مواجهة السلطوية»، في وقت باتت فيه الديمقراطية مشروخة بالانقسام، وعاجزة في أميركا عن التعامل مع القواعد الأساسية للعبة الديمقراطية، من أول «المماطلة أو الفيليباستر» إلى تشكيل المحكمة الدستورية العليا، إلى قوانين الانتخابات.
عملية الارتجاج هذه على الساحة العالمية اختلطت مع ارتجاجات «كوكبية» لها علاقة بجائحة «كورونا» من ناحية، والاحتباس الحراري من ناحية أخرى. ومن ناحية ثالثة أن العالم عرف الخلطة بين «القوة – Power» و«الاعتماد المتبادل – Interdependence» كما لم يعرفها أحد من قبل. الأولى دخلت عليها تطورات كيفية في التسليح من ناحية، وفي القدرة على التدخل السياسي من ناحية أخرى. الطائرات المُسيَّرة والصواريخ الدقيقة التوجيه ظهرت في الخليج والجزيرة العربية، والتلاعب بالانتخابات من خلال التسلل والتأثير في أدوات التواصل الاجتماعي، جرى من جانب روسيا في الانتخابات الأميركية. ومن ناحية رابعة أنه بعد الاتفاقية الدولية لمنع الانتشار النووي عام 1968، فإن أكثر من نصف قرن مضت وإذا بأعداد الدول النووية سراً أو بالقدرة تتضاعف. والثانية تشهد بأن الاعتماد المتبادل بين شعوب ودول العالم المختلفة لم يصل في التاريخ كما يحدث الآن، وبغض النظر عن مدى الخصومات الجيوسياسية أو الجيوثقافية أو حتى الجيواقتصادية، فإن التبادل في المنافع والمصالح بات من الرفعة لدرجة أن لكل نقصان ضرراً؛ ليس على طرف واحد، وإنما على جميع الأطراف. أبلغ الأمثلة تظهر في الاعتماد الأوروبي على الغاز الروسي، والاعتماد الروسي على السبق التكنولوجي الغربي في مجالات الإنتاج السلمية؛ أما العلاقات الصينية الأميركية فربما تشكل ملخصاً للاعتماد المتبادل العالمي، الذي ظهر اعتماداً على أسواق الجميع في الإنتاج والاستهلاك.
نتيجة هذه الارتجاجات جميعها، هي حالة كبيرة –أولاً- من عدم اليقين، والخوف من انفلات الأوضاع، والشعور بالانكشاف أمام تهديدات متنوعة لا يمكن مواجهتها من جانب طرف واحد في العالم مهما بلغت قوته وقدراته. وثانياً أن هناك مجالات عديدة لا مناص فيها من التعاون الدولي؛ خصوصاً في مجال القضايا الكونية الخاصة بالصحة والهجرة وما أشبه. وثالثاً أنه بينما لا توجد –حالياً- في العالم الطاقة السياسية الكافية لتطوير النظام الدولي الذي أفرزته الحرب العالمية الثانية، والذي استند إلى الأمم المتحدة وتنظيماتها المختلفة؛ فإنه من الممكن عقد صفقات محدودة تقلل من التوتر الدولي. وفي هذا الإطار تقع الصفقة المنتظرة بين إيران والولايات المتحدة، بحيث تقع سقفاً على القرب الإيراني من امتلاك السلاح النووي، ولكنها تترك كل أمر آخر مفتوحاً، إما لمزيد من الصفقات وإما التعايش مع أشكال مختلفة من التوتر. وبالمثل في أوروبا، فإن عناصر الصفقة متوفرة؛ حيث يشيع في الغرب بالفعل أن توسيع حلف الأطلنطي إلى الدرجة التي وصل إليها كان كفيلاً بتحقيق الاستفزاز لروسيا، إلى الدرجة التي وصلت إليها الآن.
وقف توسيع حلف الأطلنطي، مع بقاء أوكرانيا مستقلة وذات علاقات وثيقة بشرقها الروسي وغربها الأوروبي، ربما يكون كافياً للجميع.
ماذا نفعل نحن العرب في عصر الصفقات؟ هذا سبق تناوله بالاعتماد على الذات العربية وعناصر قوتها، وقدراتها الواسعة على الاعتماد المتبادل مع الآخرين، الذي يفتح نافذة واسعة لمبادرات وصفقات تعيد الاستقرار للمنطقة، وتمنحها الفرصة لتجاوز الارتجاجات في المنطقة التي سببها «الربيع العربي».
نقلا عن الشرق الأوسط