تواجه الدول العربية عدداً من المعوقات لاسترداد أموالها وأصولها المنهوبة، بعد قيام بعض الشخصيات والعائلات بتهريبها، ولا سيما في مراحل ما بعد التغيير السياسي، على نحو ما شهدته مصر والسودان وليبيا وتونس والجزائر ولبنان والعراق. وعلى الرغم من أن هذا الملف ليس جديداً، إلا أنه يتجدد بين حين وآخر، ولا سيما مع إثارته في بعض المنتديات الإقليمية والمحافل الدولية التي تشارك فيها الدول العربية، وكان آخرها مشاركة بعض الدول العربية في المقر الأوروبي للأمم المتحدة بجنيف مؤخراً في ندوة حول “التأثير السلبي لعدم استرداد الأموال المنهوبة على التمتع بحقوق الإنسان”، حيث ضمت خبراء بمنظمات دولية وممثلي الدول ومنظمات المجتمع المدني.
وتتمثل تلك المعوقات في وجود غطاء سياسي داعم لرجال أعمال فاسدين، وارتباط شبكات الفساد بجماعات المصالح في الجهاز المالي والإداري وربما الرقابي للدولة، وإدخال الأموال العامة في اقتصاديات غير رسمية خاصة في دول الصراعات العربية ولا سيما الحالة اليمنية، إذ يأتي ذلك في إطار تصاعد حدة الخلافات والصراعات داخل أجنحة مليشيا الحوثي مع تزايد عمليات النهب وتضخيم الثروات للقيادات الكبيرة للمليشيا، وازدواج الجنسية للقائمين بعملية تهريب الأموال العربية بما يربطها باقتصاديات الدولة المستقبلة لها، وتوجيه انتقادات داخلية للمصالحات بين النظم الجديدة ورجال الأعمال، وأثر التكنولوجيا الحديثة على تيسير عملية تهريب الأموال إلى الخارج.
كشفت المبادرة المشتركة لكل من مصر وتونس وليبيا في مجلس حقوق الإنسان، والتي حظيت بدعم وتأييد من المجموعتين الإفريقية والعربية في 9 فبراير الجاري، عن العوائق التي تواجه الدول العربية لاستعادة أموالها المنهوبة من ناحية، وخسارة تلك الدول أموالاً ضخمة من مواردها بما يحد من قدرتها على تعبئة الموارد المحلية من أجل التنمية المستدامة من ناحية أخرى، مع الأخذ في الاعتبار أن حجم الأموال المنهوبة يُعد -في كثير من الأحيان- أكثر حجماً من المساعدات التنموية المقدمة من الدول المتقدمة، وهو ما يجعل المعضلة متفاقمة في ظل مرور العديد من الدول العربية بأزمات داخلية وأوضاع انتقالية، يضاف إليها التداعيات السلبية لجائحة كورونا على اقتصاديات الدول العربية.
تحديات ضاغطة
ويشير الاتجاه الرئيسي في الأدبيات النظرية والتطبيقات العملية إلى أن هناك مجموعة من التحديات تواجه الدول العربية لاسترداد أموالها، وهي:
1- وجود غطاء سياسي داعم لرجال أعمال فاسدين: تكشف بعض الكتابات أن حركة “النهضة” التونسية لها دور رئيسي في عملية نهب أموال البلاد في مرحلة ما بعد “ثورة الياسمين”، حيث وفرت غطاء سياسياً لرجال أعمال بعينهم للتحكم بمقدرات البلاد بعد حصولهم على قروض من دون ضمانات، وتعطيل مسارات التحقيق والعدالة معهم، فضلاً عن ابتزاز رجال أعمال آخرين للدخول في شراكات وصفقات معهم. هذا فضلاً عن نهب أموال عامة من قبل رجال أعمال موالين لنظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، على نحو ما كشفه تقرير اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الرشوة والفساد منذ أواخر 2011، بما في ذلك سرقة المال العام والحصول على أراضي الدولة بثمن بخس، والتلاعب في الصفقات التي تخص المشاريع الكبرى في تونس، إلى جانب تجاوزات خطيرة في القطاع البنكي والمالي.
2- ارتباط شبكات الفساد بجماعات المصالح: يرتبط أحد التفسيرات الرئيسية لصعوبة استرداد الأموال المهربة بالصلات الوثيقة بين مرتكبي الفساد في مؤسسات وإدارات مختلفة داخل الدولة العربية، وكذلك علاقتهم مع الدول المستقبلة لها على نحو يسهم في وجود مصلحة بعدم الكشف عنها واستمرارها عبر ارتكاب جرائم الفساد، رغم الجهود التي تبذل لدعم المؤسسات المالية والرقابية العربية. لذا، طالب الرئيس اللبناني ميشال عون خلال استقباله وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان في 16 مايو 2021، باريس والدول الأوروبية بالمساعدة على استعادة الأموال المهربة إلى الخارج، مؤكداً أن ذلك يساعد في تحقيق الإصلاحات، وملاحقة من أساء استعمال الأموال العامة، أو الأموال الأوروبية المقدمة إلى لبنان، أو هدر الأموال بالفساد، أو بتبييضها.
3- إدخال الأموال العامة في اقتصاديات غير رسمية: ولعل ذلك يتضح جلياً في دول الصراعات المسلحة العربية، ومنها الحالة اليمنية، إذ قام عدد من القيادات الحوثية بنهب الأموال اليمنية العامة، على نحو ما كشفه تبادل الاتهامات بين أجنحة متصارعة في المليشيا الحوثية في النصف الثاني من يوليو 2021، حيث وجه سلطان السامعي اتهامات إلى القيادي وصاحب النفوذ الأكبر في مليشيا الحوثي أحمد حامد المكنى (أبو محفوظ) الذي يشغل منصب مدير مكتب الرئاسة في سلطة المليشيات، والذي تصفه بعض التقارير بأنه “رئيس الرئيس”، لما يتمتع به من سلطة ونفوذ يفوق رئيس ما يسمى المجلس السياسي الأعلى للحوثيين مهدي المشاط.
4- ازدواج الجنسية للقائمين بعملية تهريب الأموال العربية: وهي حيلة يلجأ إليها بعض الشخصيات الفاسدة عبر قيامهم باستثمارات في تلك الدول الحاضنة. وفي بعض الأحيان، تتحجج بعض الدول الحاضنة لتلك الأموال بعدم كفاية المستندات التي تدين الشخصيات التي توجه إليها تهمة إهدار المال العام، ولا سيما مع طول بقاء بعض النظم السياسية في الحكم، وهو ما ينطبق على نظام الإنقاذ في عهد الرئيس السوداني السابق عمر البشير، إذ إن الطريقة التي أخفى بها رموز هذا النظام المال العام المنهوب لمدة ثلاثين سنة تتطلب الكثير من الدقة لجمع المستندات وكشف المؤسسات الضالعة في الفساد.
5- توجيه انتقادات داخلية للمصالحات بين النظم الجديدة ورجال الأعمال: قد يتردد رجال الأعمال المتورطون في نهب المال العام في إرجاعه، لأن ذلك قد يؤدي إلى المزيد من المطالبات لتسوية أوضاعهم المالية. وفي حال عودة أعمالهم واستثماراتهم فقد يتم مصادرتها، لا سيما أن هناك تأكيداً من جانب بعض الدول العربية بأنها “مصالحة جزئية”. وفي هذا السياق، أكد الرئيس التونسي قيس سعيّد خلال استقباله رئيس الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة سمير ماجول في 29 يوليو 2021، أن 460 شخصاً نهبوا 13500 مليار دينار (4.8 مليارات دولار) من أموال البلاد، وعرض صلحاً جزائياً وتسوية قانونية مع كل المتورطين في نهب المال العام، مقابل إعادة الأموال المنهوبة للشعب.
6- أثر التكنولوجيا الحديثة على تيسير عملية تهريب الأموال إلى الخارج: تسهم التطورات التكنولوجية والتقنيات الرقمية في تحجيم الوصول إلى تلك الأموال، مع الأخذ في الاعتبار أن بعضها موزع ما بين استثمارات في البترول والفنادق والعقارات. لذا، أكد الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، في كلمته أمام قمة مجموعة العشرين المنعقدة بالصين في 5 سبتمبر 2016، على “أهمية أن تتضمن جهود تنفيذ خطة عمل المجموعة، موضوع استعادة الأموال والأصول المنهوبة من مصر”، مشيراً إلى “أهمية تطوير الآليات المعنية بضبط ومتابعة حركات رؤوس الأموال، خاصة ما يتعلق بخروجها من أسواق الدول النامية، ومنع المضاربات والتدفقات المالية غير المشروعة التي تؤثر سلباً على الوضع المالي والنقدي لاقتصاداتنا النامية”. ويكشف مضمون خطاب الرئيس السيسي أن الفاسدين يطورون أدوات العصر لتحقيق أهدافهم.
آليات مختلفة
هناك مداخل عديدة يمكن من خلالها تعزيز الجهود الرامية لاستعادة الأموال العربية المنهوبة بالخارج، يمكن تناولها على النحو التالي:
1- تشديد الرقابة على البنوك والمؤسسات المالية المحلية لوجود صلات لبعض العاملين فيها مع الشخصيات المتهمة بنهب المال العام.
2- تنسيق الجهود بين الجهات المعنية بمواجهة الفساد واسترداد الأموال المنهوبة بالخارج منعاً لتضارب الإجراءات وازدواج المهام، وهو ما عبر عنه وزير العدل الجزائري حافظ الأختام في الدورة الـ37 لمجلس وزراء العدل العرب في ديسمبر الماضي.
3- قيام المنظمات الأممية المعنية بتنسيق الجهود بصياغة قواعد استرشادية دولية لعملية استرداد الأموال المهربة، لأن غياب تلك القواعد يمثل محفزاً لبعض الشخصيات والعائلات النافذة في هذه الدولة أو تلك لتعزيز محاولات التهرب بتلك الأموال.
4- تشكيل تحالفات وجماعات ضغط ضد الدول التي توفر البيئات الآمنة لهذه الأموال، وهو ما انتهى إليه المؤتمر الدولي لاسترداد الأموال المنهوبة بالعاصمة العراقية بغداد في 15 سبتمبر 2021.
جهد ممتد
خلاصة القول، إن الدول العربية المأزومة تحتاج في المرحلة المقبلة إلى مجهود شاق من وزراء العدل ورؤساء مجالس القضاء والأجهزة الرقابية، فضلاً عن عدد من ممثلي جمعيات ومنظمات معنية بمكافحة الفساد العابر للحدود، وشخصيات قانونية وأكاديمية ذات صلة بموضوع مكافحة الفساد، للتفكير في آليات استعادة الأموال المنهوبة، فضلاً عن تعاون من الدول التي توفر ملاذات آمنة للأموال المنهوبة لإعادة تلك الأموال من دون مشروطية، والعمل على توفير الدعم الفني لها والمساعدة على ضمان محاسبة مرتكبي جرائم الفساد على هذا السلوك وحرمانهم من التمتع بعائداته.