سياسات الهوية فى المنطقة العربية – الحائط العربي
سياسات الهوية فى المنطقة العربية

سياسات الهوية فى المنطقة العربية



برز مفهوم «سياسات الهوية» Identity Politics فى النصف الثانى من القرن العشرين؛ مع انتشار المدرسة السلوكية فى العلوم السياسية فى مختلف المجتمعات الأكاديمية فى العالم، خصوصاً دول القارات الثلاث: آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية؛ التى دخلت اليها المدرسة السلوكية محمولة على مفاهيم ونظريات التنمية السياسية والتحديث السياسي. ولم يلق هذا المفهوم رواجاً عند ظهوره لأنه ارتبط بحركات مقاومة الاستعمار الغربى فى دول القارات الثلاث؛ التى رفعت شعارات تؤكد الهوية القومية والوطنية والدينية، ووظفت هذه القيم لحشد الجماهير لرفض الهيمنة الظالمة للقوى الغربية على دولها، ومجتمعاتها. تلك الهيمنة التى لم تقف عند حدود الظلم والاستغلال الاقتصادى والاجتماعى، ولكن تعدت ذلك الى النيل من الهوية، والذات، ومعنى الوجود للإنسان الذى يعيش فى تلك المجتمعات الواقعة تحت نير الاستعمار الاوروبى.

وازدادت الشحنة السلبية للحديث عن سياسات الهوية مع انتشار الحركات الاحتجاجية فى الولايات المتحدة الأمريكية فى ستينيات القرن الماضى، حيث ارتبطت سياسات الهوية بالمواطنين الأمريكيين من أصول إفريقية، وصاحبها ظهور حركات مماثلة فى بعض الدول الأوروبية على أسس عرقية أو دينية/مذهبية. فقد تم النظر حينها الى إشكاليات الهوية، وعلاقتها بالسياسة على أنها احد عوامل تحقيق عدم الاستقرار فى هذه المجتمعات، بل وتفكيكها من الداخل.

ولم يلق موضوع سياسات الهوية جاذبية بحثية إلا بعد أن صار تعريف الهوية ثقافيا سلوكيا، وذلك مع ظهور مفهوم جديد للهوية وهو الهوية الجندرية مع الدراسات النسوية، أو الهوية الجنسية مع حركات الشذوذ الجنسى، التى وظفت مفهوم سياسات الهوية لتحقيق الاعتراف بالوجود أولا، ثم ضمان الحقوق سواء على المستوى الدينى بتخصيص أماكن عبادة معترف بها لهم، أو على المستوى القانونى بالاعتراف بشرعية الزواج بين اثنين من نفس النوع، أو المستوى السياسى لضمان التمثيل السياسى وشغل الوظائف العامة.

هذا السرد التاريخى الموجز للمفهوم على المستوى النظرى قد يختلف عن سيرة المفهوم ورحلته على المستوى العملي؛ فقد كانت سياسات الهوية فى المنطقة العربية حاضرة وفاعلة منذ الحملة الفرنسية على مصر والشام عام 1798 وحتى اليوم فى معظم الدول العربية، وتم توظيف سياسات الهوية واستخدامها من قبل القوى العالمية، والإقليمية لتحقيق مصالح تتعارض فى معظم الأحيان مع ما يناضل من أجله الفاعلون المحليون الذين يرفعون شعار الهوية العرقية أو اللغوية أو الدينية.

وللحقيقة والتاريخ كانت شمال افريقيا هى المختبر الأول فى العالم الثالث عامة والعالم العربى خاصة لكل ما يتعلق بسياسات الهوية فى أبعادها غير الوظيفية، فقد مارس فيها الاحتلال الفرنسى كل أساليب تفكيك الهويات، وإعادة تجميعها على أسس جديدة، بمعنى تفكيك المتوارث الفعال، وإعادة خلق هويات جديدة على أنقاضه تحقق مصالح السياسة الفرنسية، وأهدافها بعيدة المدى من الوجود فى شمال وغرب إفريقيا. وقد نقل المفكر الإيرانى الراحل الدكتور على شريعتى نصا كاشفاً لأحد كبار مفكرى فرنسا وهو «جونيه لابون» يقول فيه «ينبغى ان نقسم منطقة شمال إفريقيا … لكن كيف؟ … اكتشفت أن نصف سكان شمال إفريقيا – من الناحية التاريخية يتألف من البربر، والنصف الآخر من أصل عربى، وليس بالأمر المحسوس؛ أيهم من أصل عربى، وأيهم من اصل بربرى، ثم قمت بأبحاثى، واستنتجت أن الطائفة التى أغلبها من البربر ذات مشاعر قومية أكثر حدة، أما الطائفة العربية الأصل فالمشاعر الدينية بينها أكثر غلبة، ومن هنا رأيت أنه ينبغى أن نطرح القضايا القومية، والعلمية المعاصرة بين أبناء الطائفة الثانية؛ حتى نزلزل قاعدتهم الدينية؛ كما ينبغى ان ننشر التدين بين أبناء الطائفة الأولى، بحيث يتم انفصالهم عن أبناء الطائفة الثانية بعد ان ذابوا معهم الآن فى وحدة ثقافية اجتماعية…. ولكن بأية وسيلة يمكن ان نحقق ذلك؟ … بوسيلة طرح قضية الهوية القومية».

ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم أصبح العالم العربى مسرحا لاختبار سياسات الهوية، وتوظيفها لتحقيق مصالح قوى خارجية سواء دولية بعيدة، أو إقليمية قريبة، وذلك من خلال قوى وجماعات محلية تنغلق فى هويات ضيقة؛ قد تدرك أو لا تدرك أهداف وغايات من يساندها أو يمولها من القوى الدولية والمحلية. ومع كل أزمة تمر بإحدى الدول العربية تتفاعل سياسات الهوية وتحقق مفاعيلها السلبية فى تفكيك المجتمع وتهديد وجود الدولة، فمع الغزو الأمريكى للعراق ٢٠٠٣ تفجرت سياسات الهوية بجميع صورها التاريخية؛ الدينية والمذهبية والعرقية والطائفية…الخ، وقد أدى ذلك لتداعيات مضاعفة على المستويين الاقتصادى والسياسى مما قاد الى العديد من الأزمات التى حالت دون تحقيق أى إنجاز حقيقى فى العشرين عاما الماضية.

وبعد انتفاضات الربيع العربى المشؤوم فقدت مجتمعات سوريا واليمن وليبيا وحدتها الداخلية، وتحركت الهويات العرقية واللغوية والمذهبية، وأوشكت تلك الدول على التفكك، وفقدت مجتمعاتها وحدة نسيجها الثقافى وتماسكها الاجتماعى، مما يجعل من إمكانيات عودتها إلى سابق عهدها ضربا من المستحيل.

إشكاليات الهوية حقيقة اجتماعية تاريخية موجودة فى كل الدول والمجتمعات، لا يمكن تجاهلها من خلال فرض هوية الأغلبية، ولا يمكن السماح لها بتفكيك الدولة الوطنية؛ ولكن المطلوب أن يتم التعامل معها بحلول سياسية/ إدارية تحافظ على حقوق المكونات، وتحفظ وجود الدولة والمجتمع.

نقلا عن الأهرام