انتهت المرحلة الانتقالية في ليبيا، في 21 يونيو الجاري، دون توافق سياسي على ملامح المرحلة التالية، ودون إعلان رسمي من البعثة الأممية عن الخطوات التالية، حيث لا يزال الرهان قائماً من جانب الأمم المتحدة على حل أزمة التوافق الدستوري، على نحو تعكسه دعوة المستشارة الأممية ستيفاني وليامز لرئيسَيْ مجلسي الدولة والنواب للاجتماع في مقر الأمم المتحدة بجنيف يومي 28 و29 يونيو الجاري. لكن في المقابل، فإن الخطوات التي تتخذها حكومتا الدبيبة وباشاغا تشير إلى أن الفترة المقبلة لن تكون مستقرة بشكل عام رغم تراجع مؤشرات الاحتكام إلى السلاح.
في اليوم الأخير لحكومة الوحدة الوطنية، وفقاً للجدول الزمني للبعثة الأممية، قام رئيسها عبدالحميد الدبيبة بافتتاح مقر جديد لرئاسة أركان غرب ليبيا بصحبة رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي. وعلى الرغم من أن الأخير كان قد أشاد بمشاركة رئيس أركان الغرب محمد الحداد ورئيس أركان القيادة العامة عبدالرازق الناظوري في فاعليات اجتماع اللجنة العسكرية في القاهرة بالتوازي مع اجتماع اللجنة الدستورية، إلا أن المؤشرات الواقعية ومنها افتتاح المقر الجديد، بالإضافة إلى الأوامر الصادرة عن الدبيبة والتي تؤكد على السيطرة على التحركات العسكرية وشبه العسكرية في الغرب؛ ربما تؤكد على صعوبة التفاهم بين المكونات العسكرية حول مخرج موحد للتعاطي مع ما بعد المرحلة الانتقالية، وأن الاستقطاب لا يزال قائماً.
في الوقت ذاته، التقت وزيرة خارجية حكومة الوحدة الوطنية نجلاء المنقوش مع وزير الخارجية القطري محمد بن عبدالرحمن آل ثاني في الدوحة، كما قامت بزيارة النمسا حيث التقت نظيرها ألكسندر شالنبرج. واستضاف الدبيبة ممثل الاتحاد الأفريقي وزير الخارجية الكونغولي جان كلود غاكوسو، بالإضافة إلى زيارة نائب رئيس المجلس الرئاسي عبدالله اللافي إلى تركيا، وغيرها من التحركات الكاشفة عن اتجاه إلى تعزيز مشهد الانقسام السياسي، وعدم تسليم السلطة، إضافة إلى أن بقاء الرئاسي نفسه في المشهد السياسي وهو أحد أركان المرحلة الانتقالية، حيث تمّ اختياره بنفس الآلية، يضيف علامة استفهام أخرى حول إشكالية بقاء حكومة الدبيبة، وهي النقطة التي ألمح إليها الأخير بالترابط في الوجود والعدم ما بين الرئاسي والحكومة.
في مقابل ذلك، فإن الخطوات التي اتخذها البرلمان من حيث تشكيل حكومة باشاغا، وما تبعها من خطوات أخرى مثل الانتقال إلى سرت بدعوى تجنب الصدام مع المليشيات، بالإضافة إلى إقرار ميزانية للحكومة؛ هو سياق كاشف عن أن البرلمان لا يزال يطبق خريطة الطريق التي اعتمدها في 6 فبراير الماضي، وبالتالي سيواصل عمله بغض النظر عن حسابات التوافق المطلوبة. كما أن اللقاء المرتقب بين رئيسي مجلسي النواب والدولة في غصون الأيام المقبلة لن يعول عليه كثيراً، وذلك على الرغم من أن عضو لجنة المسار الدستوري عبدالقادر حويلي أشار إلى أن النقطة الخلافية الوحيدة المتبقية من حوار القاهرة هي المادة 183 الخاصة بانتخاب رئيس الدولة، وبالتالي هناك اتجاه لصفقة تتضمن بشكل جوهري استبعاد النظام السابق من عملية الترشح، وربما لن تكون نقطة خلافية بينهما إذا ما قورنت بالخلاف حول عدم ترشح العسكريين مع التأكيد على عدم عودة المرشح العسكري لموقعه، بالإضافة إلى عدم ترشح مزدوجي الجنسية.
وفي حال الوصول إلى اتفاق، فإن الصفقة نفسها ربما ستتضمن حسم ملفات خلافية أخرى لا صلة لها بالمسار الدستوري، مثل المناصب السيادية، وإدخال بعض التعديلات على الحكومة، لكن في كلتا الحالتين، سواء أنجزت الصفقة أو لم تنجز فلا يعتقد أن الوصول إلى الانتخابات وتجديد شرعية المؤسسات سيجري في وقت قريب، لكن من المؤكد أن إنجاز الصفقة سيصبّ في صالح وضع ملامح توافقية ولو في حدها الأدنى حول السيناريو التالي. إلا أن عدم الإنجاز سيعمق الأزمة، إضافة إلى أنه في كلتا الحالتين فإن بقاء حكومة الدبيبة في المشهد سيشكل تحدياً أمام كل خطوة مقبلة.
معادلة مختلفة
من المتصور في ضوء هذه التطورات الداخلية، أنه أصبحت هناك قدرة على التكيف مع المعضلات المزمنة في الحالة الليبية، من حيث الانقسام، والتوترات الأمنية، وغيرها من المظاهر المعتادة للحالة الليبية. لكن الجديد في هذا السياق هو المرونة في عملية التكيف، وكأنها أصبحت الوضع الطبيعي للحالة الليبية، من حيث التعايش مع إدارة الأزمة الممتدة، وتطور شبكات المصالح بين النخب المختلفة.
لكن لا يمكن الرهان على هذا الوضع طويلاً، خاصة أن هناك متغيرات عديدة سوف يكون لها دور في تحديد مساراته، يتمثل أبرزها في:
1- تنامي أدوار القوى الجديدة: وتضمّ الأحزاب والتكتلات السياسية، وحتى القبيلة التي اكتسبت خبرات نوعية وتحولت تدريجياً إلى ما يشبه المؤسسة إن جاز التعبير. إذ أصبح لهذه القوى تأثير مباشر في إعادة صياغة أنماط التفاعلات والتحالفات والصراعات التي تجري على الساحة الليبية، وبالتالي لا يمكن تجاهلها عند تحديد الترتيبات السياسية الجديدة في مرحلة ما بعد انتهاء الفترة الانتقالية.
2- تآكل شرعية المؤسسات السياسية: وذلك نتيجة تراجع المصداقية في أدوارها وأدائها، بعد أن أخفقت في الالتزام بخريطة الطريق، والبنود الرئيسية في المرحلة الانتقالية. وقد كان الفشل في إجراء الانتخابات في 24 ديسمبر الماضي هو المتغير الأهم الذي خصم من هذه الشرعية على الساحة الداخلية الليبية.
3- تمسك الأطراف المختلفة بمواقفها: وهو ما يعكسه إصرار حكومة الوحدة الوطنية بقيادة عبدالحميد الدبيبة على عدم تسليم السلطة، والاستمرار في مواصلة مهامها على نحو ما يبدو في اللقاءات الأخيرة التي أجراها مسئولوها، في مقابل حرص مجلس النواب على تطبيق خريطة الطريق التي أعلن عنها في 6 فبراير الماضي، والتي تتضمن إجراء الانتخابات خلال 14 شهراً من إجراء تعديل دستوري في البلاد.
4- الحسابات المتداخلة للقوى الخارجية: باتت هذه القوى بدورها تنتهج سياسات التكيف بدرجة أو أخرى. فعلى سبيل المثال، مع انتهاء المرحلة الانتقالية، كان رئيس الوزراء المكلف فتحي باشاغا يستعرض في مجلس العموم البريطاني رؤيته للمرحلة المقبلة، على الرغم من أنه كان هناك اتجاه عام لدى القوى الدولية بعدم دعم الحكومات القائمة فيما بعد المرحلة الانتقالية. ربما الولايات المتحدة الأمريكية هي الأخرى تسير في اتجاه مماثل، مع منح أولوية للقطاع الاقتصادي في التعاطي مع الأزمة في المرحلة المقبلة.
كذلك أقرت تركيا تجديد مدة بقاء قوتها العسكرية في ليبيا، لمدة 18 شهراً أخرى، وهو أمر كان متوقعاً، لكنه رغم ما يشكله من تحدٍ إلا أنه يعزز اتجاه التكيف أيضاً على الرغم من تأرجح الموقف التركي بين الحكومتين، فالمؤشرات الأخيرة تعطي انطباعاً بالانفتاح على الطرفين. ويمكن القول أيضاً إن روسيا تسير على الدرب ذاته، فلا يزال لديها ثقل في الشرق، لكنها تنفتح دبلوماسياً على الغرب.
انتقال متعثر
تلك المعضلات في مجملها تقود إلى استخلاص رئيسي، هو أن الأزمة الليبية ممتدة، وربما ليس من مصلحة النخب السياسية التي تدير تلك الأزمة إنهاء تكرارية المراحل الانتقالية، بقدر ما أصبحت معنية بإدارة التكيف في إطار تفاعلها مع تطوراتها. واللافت أن القوى الخارجية تقوم بتطبيع سياساتها مع هذه التوجهات الداخلية، ومن ثم فإن أية مبادرة للتغيير أو الخروج عن هذا الوضع لن تأتي من القوى الدولية، رغم حجم تأثيرها، حيث ثبت من معطيات المرحلة الانتقالية المنتهية، ولا سيّما من محطة الفشل في إجراء الانتخابات التي كانت مقررة في 24 ديسمبر الماضي؛ أن كفة القوى الداخلية هي الراجحة في إحداث تغيير في المعادلة. كما لا يُفترض في الوقت ذاته الرهان على ثبات أو استدامة هذه المعادلة في المستقبل، خاصة أن هناك متغيراً آخر قد يكون له دور أكبر في تحديد مسارات هذه المعادلة، وهو الشارع الليبي وتطلعاته.