لا أبالغ ولا أتخيل، ولكن بعض ما يحدث هذه الأيام على صعيد العلاقات الدولية وبخاصة عند القمة راح يدفع إلى السطح بجملة أسئلة مرة واحدة. تحدث أشياء وتتكرر فتصبح مؤشرات، ومن اجتماع مؤشرات بعينها فى ميدان العلاقات الدولية ما يثير تكهنات، ومن التكهنات إن كثرت ما يخلق غموضا فى أجواء العمل الدولى ويهدد السلم القائم.
عرفت السياسة الخارجية للصين على مدى عقود كيف تتفادى ممارسات معينة مثل إقامة أحلاف عسكرية أو الدخول فى القائم منها. تبنت هذا الموقف منذ نشأة الدولة الجديدة على يد ماو تسى تونج واستمرت تعلنه وتؤكد عليه فى عهد دينج تشاو بنج وخلفائه وما يزال موقفا معلنا فى عهد شى شاوبنج. إلا أن تطورات فى السياسة الدفاعية والخارجية للصين وفى تفاصيل سباقات التسلح وبخاصة فى الشرق الأقصى تجعلنا كمراقبين للصين نعيد النظر فى بعض قناعاتنا. من هذه التطورات اهتمام الصين بأن تكون القواعد البحرية التى تقيمها لأغراض تموين وخدمة أساطيل تجارتها الخارجية مستعدة لتتحول على الفور تحت أى طارئ أمنى إلى قواعد عسكرية. لم يعد سرا أن قاعدة جيبوتى صارت تخضع لهذا التصنيف بل إن الميناء الذى أقيم فى باكستان والآخر فى سيريلانكا والثالث فى كمبوديا والرابع فى الخليج على مشارف المضيق، جميعها صارت محل التكهن بأن الصين ربما بدأت تتخلى عن التزامها تجنب إقامة تحالفات عسكرية. أتصور أنه لن يكون مستحيلا التوصل مع الدول المضيفة لهذه الموانئ الصينية الإنشاء والإدارة والتسليح إلى صيغة لن تكون بحكم الأمر الواقع بعيدة عن صيغة الحلف العسكرى.
لن تكون هذه المنشآت وانتشارها وبخاصة فى الدول النامية السبب الوحيد وراء تكهنات فى هذه الدول بأن الصين تنوى تغيير أحد أهم مبادئ سياستها الخارجية التى التزمتها منذ النشأة. كانت المناورات العسكرية المشتركة التى انتظمت أخيرا مع الاتحاد الروسى سببا آخر. لا أستبعد أن تكون هذه الدول أو بعض منها بات متفهما الظروف التى تدفع الصين إلى تنظيم هذا النوع من النشاط العسكرى فى المحيط الهادى، إذ لم يكن خافيا التمدد المتواصل من جانب حلف الناتو وتوسعه فى اتجاه الشرق. كاد الحلف يصل بالفعل إلى حدود المجال الحيوى للصين، إن صح التعبير، وأقصد طرق التجارة ومراكزها وبخاصة فى المجال الأوراسى. يكفى أيضا أن يكون فى ذهن المحلل أو المراقب حقيقة أن طريق الحرير بتسميته الراهنة صار معلما حيويا وثابتا فى الاستراتيجية الصينية وركنا أساسيا من أركان المجال الحيوى للصين كما يراه صناع السياسة الخارجية الصينية. يعرف القاصى والدانى أن الصين دخلت حربا فى بداية العهد الشيوعى عندما تعرض مجالها الحيوى فى كوريا لتهديد مباشر من الولايات المتحدة.
ثم جاء مباغتا لنا إقامة حلف الأوكوس الثلاثى بين أمريكا وبريطانيا وأستراليا، وأن يظهر لنا الآن أن أستراليا كانت من فترة غير قصيرة تستعد لمثل هذا التطور فى سياستها الإقليمية. كانت هى التى دفعت الصين إلى تنفيذ إجراء استهجنته طويلا فى كل علاقاتها التجارية وهو المقاطعة الاقتصادية لأحد أهم منتجات أستراليا التى تصدرها للصين. لم يكن الإجراء الصينى بدون سبب. إنما جاء ردا على إجراء أسترالى بضغط أمريكى لمقاطعة منتجات وخدمات شركة هواوى ومن بعدها اندفاع كانبرا غير المبرر لإجبار الصين على الاعتراف بمسئوليتها عن خلق ونشر فيروس جائحة الكورونا. لسنا غافلين عن استمرار أستراليا فى تصعيد المواجهة مع الصين كما توضحه الإجراءات الأسترالية تجاه الاضطرابات فى جزر سولومون وغيرها فى جنوب المحيط الهادى.
حق لنا أن نشارك فى موجة التكهنات فنسأل إن كانت الأنشطة الكثيرة ذات الطابع العسكرى هى وأنشطة أخرى جعلتنا نتكهن بأن السنة القادمة فى العمل الدولى للصين وقد بدأت فعلا ستكون سنة صعبة. أما الأنشطة والعناصر الأخرى فأهمها الحاجة الماسة لتصحيح المسار الرأسمالى والخلطة الرأسمالية الاشتراكية التى ابتدعها الرئيس دينج تشاو بنج ومنها أيضا التعبئة الحالية من أجل المؤتمر القومى للحزب الشيوعى الصينى. ينبع اهتمامى بهذه الدورة، وأقصد دورته التى تعقد فى أكتوبر القادم، من أمور معينة ألخص أهمها فى الآتى.
أولا: ننتظر أو نتوقع، ونحن كثيرون، أن يجدد المؤتمر للرئيس شى فيمنحه مدة ثالثة فى الحكم والحزب. مرت مراحل الإعداد لهذه الخطوة بعمليات وإجراءات معقدة وطويلة. إذ باتت القاعدة بعد وفاة الرئيس ماو تنص على أن يقتصر التجديد على مدة واحدة أخرى. حصل الرئيس شى من اللجنة المركزية على دعمه للتجديد مدة ثالثة ومفتوحة لرابعة وخامسة إن امتد عمره. حجج الرئيس أو مسوغات التمديد كثيرة منها على سبيل المثال تعزيز الإنجازات التى تحققت فى عهد الرئيس شى.
ثانيا: النية فى صياغة بيان أو قرار استثنائى يضع الرئيس تشى بين ثلاثة عظام فى تاريخ الحزب والدولة الاشتراكية. يأتى فى القرار التاريخى أيضا تصديق الحزب على تغييرات جذرية فى سردية تاريخ الحزب الشيوعى الصينى. طبقا لهذه التغييرات يعترف الحزب ولأول مرة بأن الرئيس «الأسطورى والملهم» ماو تسى تونج أخطأ حين تسبب فى مجاعة طاغية عند تنفيذه قرار إنشاء الكوميونات الريفية والمدنية. أخطأ مرة ثانية عند إشعال الثورة الثقافية التى أودت بأعداد هائلة من البشر. أما الرئيس الثانى «الأسطورى والملهم أيضا» فقد أخطأ فى تنفيذ برنامجه للتحرر الاقتصادى والإدارى حين أثمر البرنامج خطيئتين لا تغادران، إحداهما بلغة الحزب العيش ببذخ والثانية باللغة نفسها عبادة النقود. الرئيس دنج سوف يتحمل حسب التاريخ الجديد للحزب مسئولية الفجوة الراهنة بين الدخول. وفى سردية الرئيس شى لتاريخ الحزب لن يفوته الإشارة إلى حقيقة أنه تأكد بالأدلة القاطعة أن ارتفاع نسبة النمو القومى ليست الدليل الأوحد أو الكافى على النجاح. إذا تحقق هذا التكهن وغيره سوف يكون الرئيس شى قد أعفى نفسه من مسئولية تباطؤ الاقتصاد الصينى فى السنوات الأخيرة.
ثالثا: وعليه يصبح من مسئوليات المؤتمر أيضا وضع الحلول ومنها تنفيذ خطة الرئيس شى للمستقبل، خطة الرخاء المشترك. تقضى الخطة بأن يدخل الحزب بنفسه ساحة الاقتصاد بمشروعات قوانين تراعى زيادة الضرائب على ذوى الدخل المرتفع. من مسئولياته أيضا تصحيح أخطاء ارتكبها قطاع البناء والتشييد وكانت نتيجتها تشجيع الأثرياء على المضاربة بالمساكن غير المسكونة والمتوافرة بكثرة. لاحظنا أنه بدأ بالفعل يواجه مشكلات عويصة من نوع مشكلة تراجع نسبة الشباب فى الهيكل السكانى، وهذه أيضا من أخطاء عهدى ماو ودينج. تسببت هذه الأخطاء فى كوارث اقتصادية واجتماعية كادت تصيب اقتصاد الصين بالشلل.
رابعا: بمعنى آخر، صارت من مهام المؤتمر القادم للحزب كبح جماح التيار الرأسمالى فى الحزب وذلك بتهذيب أو تشذيب التجاوزات التى ارتكبتها الشركات الكبرى وبخاصة فى مجال الإنترنت والحواسيب، المدهش طبعا أن يتبادل الغرب والصين الاهتمام بهذا الأمر فى وقت واحد. هناك فى الصين، كما أعلم، من يعتقد أن المؤتمر يجب أن يقرر انفتاحا رأسماليا أوسع وهناك من يتمنى أن يخرج بقرارات تقيد حرية التوسع الرأسمالى. المثير الآن هو أن كلا من الصين من ناحية والعالم الغربى من ناحية أخرى يبذلان جهودا صادقة ومتواصلة، وإن متواضعة، لإصلاح النظام الرأسمالى. غير خاف على المسئولين، على الناحيتين، أن سقوط قلاع الرأسمالية بسبب فسادها أو تجاوزاتها سيكون مدويا ويجر فى سقوطه الأمن والسلم الدوليين.
خامسا: الاستعداد لقرارات لها صفات التغيير الجذرى فى توجهات النظام السياسى فى الصين تستدعى اتخاذ إجراءات فورية وبعضها متدرج خلال الفترة المتبقية على انعقاد المؤتمر. مثلا يتوقعون خلال السنة القادمة وحتى شهر أكتوبر تضييقا جديدا فى مجال الحريات والحقوق السياسية، يتوقعون أيضا التخلص من معارضى التغيير وسياسات الرئيس شى والمترددين فى التأييد. وسوف تصدر بالتأكيد قرارات تجدد الالتزام بتوحيد تايوان والصين وتستكمل دمج هونج كونج فى الوطن الأم وحماية سنكيانج والتبت من الاختراق الخارجى وعناصر الانفصال، والاستمرار فى إنشاء مستوطنات صينية على الحدود مع الهند فى مناطق الهملايا.
سادسا: يبقى واضحا أن هذا المؤتمر سوف يصدق على وثيقة تاريخ الحزب الشيوعى الصينى من منظور الرئيس شى. يتوقعون أن تتضمن الوثيقة رؤية الرئيس للمستقبل بوحى من المقولة الشهيرة «من يتحكم فى الماضى يتحكم فى المستقبل» واستنادا إلى تجربته فى الحكم وخلاصتها أمران أولهما أن الصدام مع أمريكا حتمى ولكن يجب أن يؤجل إلى منتصف القرن أو ما بعده. ثانيهما أن المرحلة القادمة فى الصعود الصينى سوف تعتمد على السياسة أكثر من الاقتصاد.
يبدو لى أن الرئيس شى اكتشف وإن متاخرا أن الأدوات الجيواقتصادية التى أوصى الرئيس دينج باستخدامها حققت أهدافها ولم تعد كافية وحدها لإدارة عملية صعود الصين إلى القمة. لذلك يتعين الآن، حسب الآراء والمشورات من الدوائر المحيطة به، البحث عن مواقع وفرص فراغ سياسى، يقصدون الفراغ الذى تخلفه الولايات المتحدة باستمرار انسحاباتها المتوقعة فى المستقبل.
سابعا، فيما يتعلق بصنع السياسة الخارجية للصين حدث خلال السنوات الأخيرة توسع كبير فى عدد الأطراف المشاركة فى صنع هذه السياسة، وبطبيعة الحال صارت العملية أشد تعقيدا. لاحظنا مثلا أنه أصبح للحكومات المحلية دور كبير فى صنع هذه السياسة، أتيح لها هذا الدور بفضل الإصلاحات الإدارية التى تقررت فى عهد الرئيس دينج. لاحظنا أيضا توسع وتعدد أدوار أنيطت بقطاع الدبلوماسية. لا يغيب عنا أن تعبير ذئاب الدبلوماسية المستخدم بكثرة هذه الأيام يعكس درجة أكبر من الاحتراف فى هذه المهنة فضلا عن حقيقة أن الدبلوماسيين الصينيين صاروا يمثلون قوة ضغط بحكم إنجازاتهم فى الدول المستفيدة من مبادرة الحزام والطريق. لا يفوتنا بطبيعة الحال الوزن الثقيل دائما وبخاصة أخيرا للمؤسسة العسكرية. لعبت فى وقت من الأوقات دور الموازن لقوة الحزب وهيمنة البيروقراطية الحكومية، وأظن أنها مستمرة فى أداء هذا الدور ببراعة وانضباط.
لم يكن طريق الصعود إلى القمة فى أى مرحلة من مراحل التاريخ مفروشا بالزهور. فى البداية ربما هكذا يبدو. الآن الطريق نفسه صار مغروزا بالألغام وعلى جانبيه إغراءات رهيبة ومحفزات هائلة، وعند كل انثناءة فى الطريق تقف البشرية تنتظر بشائر عالم جديد.
الاقتباس:
المثير الآن هو أن كلا من الصين من ناحية والعالم الغربى من ناحية أخرى يبذلان جهودا صادقة ومتواصلة، وإن متواضعة، لإصلاح النظام الرأسمالى. غير خاف على المسئولين، على الناحيتين، أن سقوط قلاع الرأسمالية بسبب فسادها أو تجاوزاتها سيكون مدويا ويجر فى سقوطه الأمن والسلم الدوليين.
نقلا عن الشروق