يُظهر السلوك التصويتي للدول العربية على إخراج روسيا من مجلس حقوق الإنسان مجدداً أن هذه الدول تحاول بنجاح حتى الآن تبني موقف مستقل تجاه الصراع الدائر في أوكرانيا، فقد صوتت اثنتان من الدول الأعضاء في الجامعة العربية فقط لصالح القرار، وهما ليبيا وجزر القمر التي أسقطتها التقارير من قائمة الدول الموافقة، وليست لدي معلومات بخصوص الجهة صاحبة قرار التصويت الليبي، وهل هي المجلس الرئاسي أم الحكومة المُتنازع على شرعيتها، ولا أدعي معرفةً بملابسات تصويت جزر القمر، لكنهما تبقيان الدولتان الوحيدتان من أصل 21 دولة عربية عضواً في الأمم المتحدة اللتان وافقتا على القرار. وتقابلهما دولتان، هما الجزائر وسوريا، رفضتا القرار. بينما امتنعت 12 دولة عن التصويت، فيما غابت 5 دول. ويعني هذا أن القاسم المشترك بين مواقف الدول العربية هو الامتناع عن التصويت. وهو ما يعكس شدة تعقد الصراع الدائر في أوكرانيا؛ فمن ناحية لا يمكن إقرار استخدام القوة في تغيير أوضاع قائمة يعترف بها المجتمع الدولي، وقد عانينا كثيراً كعرب هذه الخروق، ومن ناحية أخرى لا يمكن تجاهل الهواجس الأمنية الحقيقية لروسيا، والمحاولات التي بذلها رئيسها منذ بداية عهده من أجل التوصل إلى صيغة متوازنة للعلاقة مع التحالف الغربي، والتحيز الإعلامي الصارخ من الآلة الإعلامية الغربية، خاصة أن سجل دول التحالف الغربي حافل بالممارسات التي يقيم الدنيا الآن ولا يقعدها متذرعاً بها.
وهكذا يبدو الامتناع عن التصويت هو الموقف الأصح، باعتباره لا يتضمن تأييداً ولا إدانة لأي من طرفي الأزمة، وإنما يحاول بلورة موقف لا ينطلق من انحيازات مبدئية لطرف ضد آخر، وإنما يُبنى على المصالح الوطنية والعربية. وأحسب أن موقف الدول المتغيبة عن التصويت قريب من حيث الجوهر من تلك التي امتنعت عنه. وهكذا يمكن الافتراض بأن الدول العربية حريصة على اتباع نهج مستقل، وهو ما يمثل في تقديري النهج الأمثل.
والواقع أن هذا الموقف العربي المتوازن ظهر منذ بداية الأزمة في اجتماع مجلس وزراء الخارجية العرب على مستوى المندوبين الدائمين في 28 فبراير الماضي، أي بعد 4 أيام فحسب من بدء العملية العسكرية الروسية، حيث عبَّر المجلس عن القلق إزاء تطورات الأزمة وأكد تأييد الجهود الدبلوماسية لحلها وأهمية احترام مبادئ القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة ودعم مساعي تخفيف حدة التوتر وضبط النفس، وأوصى بتشكيل مجموعة اتصال عربية على المستوى الوزاري تتولى إجراء الاتصالات اللازمة مع الأطراف المعنية للمساهمة في إيجاد حل دبلوماسي للأزمة. وأكد المجلس الوزاري في 9 مارس الماضي توصيات اجتماع المندوبين، وشُكلت المجموعة بالفعل وقامت بزيارتين لموسكو ووارسو التقت فيهما بوزيري الخارجية الروسي والأوكراني. وبغض النظر عن قدرة هذه المجموعة كممثلة للجامعة العربية على التوسط في الأزمة، كما يأمل البعض، وهي قدرة محدودة بالنسبة للجميع نظراً لتعقد الأزمة والتناقض الحاد بين مطالب طرفيها، فإن أهمية هذه المجموعة والموقف العربي الذي بُنيت عليه أنها تعبّر عن موقف عربي جماعي تجاه أزمة دولية طاحنة ستؤثر بالتأكيد في بنية النظام العالمي.
ومن الأهمية بمكان أن يكون للدول العربية هذا الموقف الجماعي كي تتمكن من المشاركة في صياغة أسس النظام العالمي الجديد بالقدر الذي يحفظ لها مصالحها المشتركة. ولا يجب بحال الاستخفاف بعوامل القوة العربية التي أفضى التنسيق في توظيفها دائماً إلى نتائج بالغة الإيجابية. وإذا كان العرب قد تمكنوا في الخبرة الماضية القريبة من حشد جهودهم لمواجهة التحديات الأمنية في السنوات الصعبة (1967-1973)، فإن التحديات الراهنة لا تقل خطورةً، وهي تتطلب عملاً عربياً مشتركاً من طراز رفيع ما أجدرنا به وأحوجنا إليه.
نقلا عن الاتحاد