لا تعتبر روسيا نفسها بعيدة عن الحملة الأمريكية الشرسة لاحتواء الصين، ومحاولة تقويض نفوذها الإقليمي والعالمي، وصعودها الاقتصادي. ولا تشعر بالارتياح للتحالفات والشراكات الجديدة التي تشكلها واشنطن في محيط مناطق النفوذ الصيني التقليدية في آسيا والمحيط الهادي، وكان آخرها تحالفها البحري مع أستراليا وبريطانيا الذي توّجته بصفقة الغواصات النووية. وكذلك التجمع الجديد الذي تقوده ويضم اليابان والهند وأستراليا وتوجته أيضاً بقمة افتراضية بين قادة الدول الأربعة.
ورغم أن موسكو تدرك أن الصين، وليست هي المستهدف الأول من هذه التكتلات، إلا أنها على ثقة بأن أهداف واشنطن الحقيقية تتجاوز التفوق في المنافسة المعلنة مع الصين. وأن هدفها على المدى البعيد هو إعادة رسم خريطة تحالفاتها في منطقة آسيا- المحيط الهادي باعتبارها الأكثر أهمية لمصالحها في القرن الحادي والعشرين.
وإذا قُدّر لواشنطن النجاح فلن تكون الصين وحدها الضحية. روسيا أيضاً ستخسر الكثير في ظل الهيمنة الأمريكية المطلقة على المنطقة، وهو ما تعيه القيادة الروسية جيداً. رد الفعل الطبيعي في هذه الحالة هو اللجوء إلى القاعدة المعروفة؛ «عدو عدوّي صديق»، أي أن الصين هي الصديق المضمون باعتبارها العدو الأول لأمريكا عدوتهما المشتركة. وعلى هذا تسعى روسيا لتعزيز علاقاتها بجارتها القوية، إلا أن مهمتها ليست بالبساطة التي يبدو عليه الأمر.
الدولتان لهما حسابات معقدة تحكم علاقتهما المشتركة. الصين من جانبها ترغب في علاقات قوية مع روسيا، وتحاج إليها، إلا أنها لا تريد تحالفاً عسكرياً معها. وبتعبير المحلل الروسي ديميتري تيرينين، تتطلع بكين لعلاقات وثيقة مع موسكو لكن ليست وثيقة أكثر من اللازم. بمعنى آخر، مستوى من العلاقات أكبر من الشراكة، وأقل من التحالف. ولن تسمح الصين بإقامة روابط مع روسيا للدرجة التي يمكن تهدد مصالحها مع الغرب، بما في ذلك أمريكا نفسها. وفي تقرير نشرته مؤسسة كارنيجي الأمريكية البحثية، يعتبر تيرينين أن التقارب الروسي الصيني، الذي تمليه مصالح مشتركة وتعززه الضغوط الأمريكية، يظل مرهوناً بعلاقات بكين وواشنطن التي يمكن أن تتطور في أي اتجاه، سواء بمزيد من التدهور، أو الهدوء والمصالحة.
والمأزق الذي تواجهه روسيا في إدارة علاقاتها مع الصين له جانب آخر لا يتعلق بالنزاع مع أمريكا، بل بعلاقات الصين المتوترة مع العديد من بلدان المنطقة التي تحتفظ موسكو بعلاقات طيبة معها. على سبيل المثال، وجدت روسيا نفسها في موقف بالغ الصعوبة العام الماضي عندما اندلعت اشتباكات حدودية بين الهند والصين. وكان من المستحيل الانحياز لطرف والتضحية بالطرف الآخر في ظل العلاقات الوطيدة التي تربطها بالبلدين. وكان من غير الممكن أن تقف ساكنة. أما التوسط الذي حاولت القيام به فقد اصطدم برفض البلدين تدخل طرف ثالث. مأزق مشابه تواجهه موسكو وهي تحاول تطوير تعاونها مع فيتنام التي تحتفظ بعلاقات باردة مع بكين.
مشكلة أخرى مختلفة تواجهها في علاقاتها مع باكستان. هذه المرة الأزمة لا تتعلق بالصين لكن بالهند العدو التقليدي لإسلام أباد. ترى موسكو أن أهمية باكستان بالنسبة إليها تضاعفت بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، لكن التقارب معها قد يغضب الهند التي ترتبط مع روسيا بتعاون وثيق، خاصة في المجال العسكري. ومن هنا نفهم لماذا تسعى أمريكا لاستقطاب الهند مستغلة أزماتها المتكررة مع الصين من ناحية، وشكوكها تجاه نيات روسيا من ناحية أخرى. خاصة وأن كثيرين في نيودلهي اعتبروا حياد روسيا في أزمة الحدود مع الصين خيانة للهند.
وتعتصم روسيا بالحياد في الكثير من الأزمات المشابهة، فليس لها غيره، وهو موقفها على سبيل المثال من النزاع بين الصين واليابان حول جزر سينكاكو- دياون التي تسيطر عليها اليابان. وتتخذ الموقف نفسه من النزاع في كشمير. الاستثناء الوحيد هو تايوان التي تعتبرها روسيا جزءاً من الصين في تبنّ كامل لموقف بكين. إنها السياسة بتعقيداتها وتقلباتها. لا عداوات دائمة، ولا صداقات دائمة، ولكن مصالح دائمة.
نقلا عن الخليج