اتسع نطاق العمليات التي استهدفت الحضور الأمريكي في العراق بشكل لافت خلال الفترة الماضية. ولعل آخر أبرز المؤشرات الدالة على ذلك كان تعرض قاعدة عين الأسد، التي تضم قوات أمريكية، في محافظة الأنبار، في 7 يوليو الجاري، لقصف بـ 14 صاروخاً، بشكل أدى إلى إصابة 3 أشخاص. كما تعرض مطار أربيل، الذي يضم قوات أمريكية أيضاً، في إقليم كردستان، قبل ذلك بيوم واحد، لهجوم بطائرة مسيرة. وبرغم غموض هوية المتسبب في الهجمات الأخيرة على المصالح الأمريكية في العراق، إلا أن الترجيحات تشير إلى أن ميليشيات “الحشد الشعبي” هى المسئولة عن تلك الهجمات، بإيعاز من إيران، وهو الأمر الذي يُشكل تحدياً رئيسياً أمام أية جهود إصلاحية قد تستهدفها الحكومة العراقية على الصعيد الداخلي أو على مستوى تطوير علاقاتها مع العالم الخارجي.
حسابات طهران:
ترى اتجاهات أمريكية وعراقية عديدة أن إيران منحت الضوء الأخضر لشن تلك الهجمات التي تستهدف المصالح الأمريكية في العراق، على نحو يبدو جلياً في المؤشرين التاليين:
1- الحرص الأمريكي المتواصل على تحميل إيران المسئولية: تواصل الولايات المتحدة تحميل طهران مسئولية الهجمات التي تقع ضد مصالحها في العراق، وهو ما انعكس في تصريحات المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية جون كيربي، في 13 يوليو الجاري، والتي قال فيها أن “إيران وميليشياتها مسئولة عن الهجمات الأخيرة على القواعد العسكرية الأمريكية في سوريا والعراق”. ودائماً ما تنفي إيران تلك الاتهامات، وترى أنها تأتي في إطار ما تصفه بـ”التلفيق” وكذلك “التفسير العشوائي” للمادة 51 في ميثاق الأمم المتحدة، والتي تنص على ضرورة إخطار مجلس الأمن بأي تحرك يتخذه أى بلد دفاعاً عن النفس في وجه أي هجوم مسلح.
2-تحذير بغداد لطهران من خطورة رعاية هجمات الميليشيات: وجّه رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، حسب تقارير عديدة في 7 يوليو الجاري، رسالة إلى إيران خلال لقاءه رئيس استخبارات الحرس الثوري الإيراني حسين طائب الذي قام بزيارة بغداد مؤخراً، بشأن دور الفصائل المسلحة المقربة من طهران، وما تقوم به من عمليات استهداف للبعثات الدبلوماسية وقوات التحالف الدولي في العراق، حيث قال الكاظمي أن ما يحدث من عمليات قصف واستهداف يؤثر على مجرى المفاوضات الأمريكية- الإيرانية، ويؤثر على جدول انسحاب القوات الأمريكية من العراق، مطالباً بضرورة التدخل من أجل وقف عمليات القصف إذا ما كانت بتنسيق بين الحرس الثوري وهذه الفصائل.
دلالات متعددة:
تطرح الهجمات المتصاعدة ضد المصالح الأمريكية في العراق مجموعة من الدلالات، التي يتمثل أبرزها في:
1- ارتدادات فوز رئيسي: كان لافتاً أن وتيرة الهجمات ضد الحضور الأمريكي في العراق تزايدت في أعقاب الإعلان عن فوز إبراهيم رئيسي في الانتخابات الرئاسية الإيرانية التي أجريت في 18 يونيو الفائت، وهو الأمر الذي يعني أن الميليشيات الموالية لإيران في المنطقة باتت أكثر اطمئناناً بوصول رئيس متشدد للسلطة في إيران، وأن أى تحركات أمريكية تصعيدية ضد إيران ووكلائها في المنطقة سيتم الرد عليها بصورة أساسية في الساحة العراقية، التي تعد المصدر الرئيسي والتقليدي للنفوذ الإيراني في المنطقة.
جدير بالذكر أن وزارة الدفاع الأمريكية كانت قد أعلنت، في 28 يونيو الجاري، عن أن القوات الأمريكية وجهت ضربة جوية دفاعية دقيقة ضد منشآت تابعة لجماعات مسلحة موالية لإيران على الحدود السورية- العراقية. وبحسب الوزارة، استهدفت الضربات الأمريكية على وجه التحديد منشآت عملياتية ومخازن للأسلحة في موقعين في سوريا وموقع واحد في العراق. وقد استخدمت هذه المنشآت العديد من المليشيات المدعومة من إيران، بما في ذلك “كتائب حزب الله العراقي” و”كتائب سيد الشهداء”.
2- تسريع خروج القوات الأمريكية من العراق: تسعى إيران من خلال دعمها لهجمات الميليشيات الموالية لها ضد الحضور الأمريكي في المنطقة، وتحديداً في العراق، إلى زيادة مستوى الضغوط على الولايات المتحدة من أجل الانسحاب بشكل سريع من الساحة العراقية. وترى طهران أن التقليص الجاري للحضور الأمريكي في المنطقة، لاسيما في أفغانستان، يعد بمثابة فرصة غير مسبوقة لدفع واشنطن إلى الإقدام على الخطوة نفسها في العراق.
3- مناوئة الكاظمي: يتبنى رئيس الوزراء العراقي الحالي مصطفى الكاظمي سياسة لا تتوافق بشكل تام مع مصالح وحسابات طهران، وذلك على عكس كثير من رؤساء الوزراء العراقيين السابقين. وعلى اعتبار أن ضبط الحالة الأمنية يأتي على رأس أولويات عمل حكومة الكاظمي، فإنه يبدو أن إيران والميليشيات الموالية لها باتت حريصة على وضع عقبات تحول دون نجاح الحكومة في تعزيز الاستقرار على المستويين السياسي والأمني، وبما يفرض تداعيات سلبية على المستقبل السياسي للكاظمي وإمكانية تولية رئاسة الحكومة بعد إجراء الانتخابات التشريعية في 10 أكتوبر المقبل.
ومن الواضح أنه رغم المحاولات الإيجابية للكاظمي من أجل فرض سيادة وهيبة الدولة، باعتبارها أحد المحاور التي لطالما أكد عليها منذ توليه رئاسة الحكومة، إلا أن تلك المحاولات ما زالت تواجه عقبات عديدة حتى الآن، وذلك في ضوء بقاء البيئة غير المُحفَّزة، خاصة فيما يتعلق بالدور السلبي الذي تقوم به ميليشيات “الحشد الشعبي” بإيعاز من إيران.
4- تعزيز احتمالات تأجيل الانتخابات المبكرة: يمكن تفسير تصعيد الميليشيات الموالية لإيران من هجماتها ضد الحضور الأمريكي في العراق، في ضوء سعيها من أجل دفع الحكومة لتأجيل الانتخابات المبكرة المقررة في 10 أكتوبر المقبل إلى موعدها الطبيعي في إبريل 2022، والسماح لمجلس النواب الحالي باستكمال مدته كاملة، مستندة في هذا السياق إلى أن استمرار عجز الحكومة عن ضبط الانفلات الأمني يشكل عقبة أساسية أمام إجراء الانتخابات في أكتوبر المقبل، وهو هدف تسعى بعض القوى السياسية بصورة أساسية إلى تحقيقه، وسبق وأعلنت عن ذلك صراحةً “عصائب أهل الحق” و”ائتلاف دولة القانون”.
ختاماً، يكشف ارتفاع وتيرة الاستهدافات الأخيرة ضد الحضور الأمريكي في العراق عن أن الفترة المقبلة ستشهد تصعيداً أكبر، خاصة في ظل استمرار التوتر بين الكاظمي وبعض القوى السياسية والميليشيات المسلحة، فضلاً عن غموض المسارات المحتملة للمفاوضات التي تجري في فيينا بين إيران ومجموعة “4+1” بمشاركة أمريكية غير مباشرة، بعد أن تأجلت جولتها السابعة، انتظاراً لتشكيل حكومة الرئيس الإيراني الجديد إبراهيم رئيسي.