دير الزور ونزاعات لا جدوى منها – الحائط العربي
دير الزور ونزاعات لا جدوى منها

دير الزور ونزاعات لا جدوى منها



دير الزور أنبارية التراث (نسبة لمحافظة الأنبار العراقية) وشامية الهوى (أى دمشقية وسورية)… ضفتا نهر فراتها يرمز لهما بالجزيرة (يسارا، ما بين نهرى دجلة والفرات) والشامية (يمينا، نظرا لبادية الشام)… دير الزور مدينة عريقة، وكذلك توءمها مدينة «الميادين»، كانت تقوم على سنجق عثمانى أيام ولايات الشام وحلب وبيروت. نشأ بين جنباتها مفكرون وشعراء اشتهروا فى العراق ومصر، كمحمد الفراتى. هذا بالرغم من أن البيئة العامة والمحيطة عشائرية وتحتفظ بتقاليد وأعراف القبائل العربية حتى اليوم، كما العراق وكما أيضا أكراد سوريا والعراق الذين يشاركونهم هذه البيئة.

ولدير الزور رمزية تاريخية، لنسبها لديرٍ مسيحي، ودورها فى العصور الإسلامية، وكذلك لأنها تقع فى مصب نهر الخابور فى الفرات، الذى استوطنه الأشوريون النساطرة المسيحيون بعد المذبحة التى تعرضوا لها فى شرق الأناضول وجنوبه. وهى أيضا المحطة الأخيرة لمهجرى مذبحة الأرمن حيث كان الأرمن حتى حديثا يحجون من جميع الأنحاء لزيارة الضريح الكبير فيها.

أهلها وعشائرها، ممثلون بالشيخ فاضل العبود الحسن، اختاروا أن يشاركوا فى المؤتمر السورى الأول وفى إعلان ولادة الدولة السورية رغم أن القوات البريطانية كانت تحتل المدينة حينها. ثم شاركوا فى جميع النضالات ضد الاستعمار الفرنسى. قبل أن ينخرطوا فى التحولات السورية الحديثة، كما جميع أبناء الجزيرة، عربا وكردا.

لم يصطدم أهلها يوما مع السلطات القائمة. لكن المدينة ومحيطها أُبعِدَا عن مجالهما العراقى بسبب التنافر الشديد بين حزبى البعث اللذين حكما البلدين. ولم يبقَ لهم مجالٌ سوى الهجرة إلى بلدان الخليج، حيث أيضا المحيط عشائرى، ومرتبتهم العشائرية مرموقة. ولم تنهض دير الزور إلا بعد اكتشاف النفط قربها فى أواخر ثمانينيات القرن الماضى. إلا أن هذه النهضة سرعان ما انتكست مع السياسات الزراعية بعد عام 2000 ونتائجها الاجتماعية، لتنشط قليلا مع «انفتاح» «اتفاقية النفط مقابل الغذاء»، لتنتكس مجددا وبشكلٍ أكبر مع الغزو الأمريكى للعراق.

فَزَعَت عشائر دير الزور نصرةَ لشقيقاتها فى العراق. لكن هذه الفزعة كثيرا ما تشوهت بالفكر السلفى الموروث من الهجرة إلى الخليج. هكذا حتى توالت غزوات تنظيمات النصرة ثم داعش على دير الزور والجزيرة عموما والتى جعلتها تدفع ثمنا بشريا للصراع فى سوريا وعليها يوازى ما دفعته عين العرب/كوبانى الكردية ثم الرقة. والمثال هو ما حدث لعشيرة الشعيطات.

أوضاع دير الزور كانت موضوعا لنقاشات طويلة مع صديقٍ عزيز رحل مؤخرا هو قيس العزاوى، سفير العراق السابق فى الجامعة العربية ثم نائب الأمين العام. رحمه الله. كان يعى جيدا تداخلات الأوضاع العراقية ــ السورية والصراع الطائفى ــ القومى الذى أطلقه الغزو الأمريكى. وكان سندا لمبادرة المراقبين العرب لتخفيض وتيرة النزاع فى سوريا قبل تحوله إلى حرب. وعندما تم إفشاله، وكذلك خطوات توحيد المعارضة والتوافق على حل سياسى، نظم لى زيارة إلى بغداد فى أيلول/سبتمبر 2012 لمقابلة رئيس الوزراء العراقى حينها نورى المالكى. ذهبت هناك وتمت استضافتى ليومين فى استراحة مجلس الوزراء فى المنطقة الخضراء فى عُزلة سريالية. أصررت على الخروج منها للجلوس على ضفاف دجلة والتمتع بأكل «المسقوف» (طبق السمك النهرى الشهير).

«ماذا يُمكِن للعراق أن يقوم به لوقف النزاع فى سوريا؟». سأل رئيس الوزراء بعد نقاشٍ طويل حول الصراع السورى الذى بدأ يتحول إلى حرب. فاقترحت إرسال قوافل إغاثة يقوم عليها مزيجٌ سنى شيعى من العشائر العراقية نحو دير الزور والرقة، رمزا لتخطى العراق محنته الطائفية. رن الهاتف حين فتحته فى مطار استنبول، محطتى للعودة إلى باريس. «لقد وافق مجلس الوزراء على الاقتراح». ثم رن مجددا حين وصلت باريس؟ «لم يعُد الأمر ممكنا».

فى جلسة لاحقة مع الصديق قيس، قيمنا هذا الاقتراح «الطوباوى» وأسباب فشله. كيف أن الشرذمة السنية ــ الشيعية والصوفية ــ السلفية والعربية ــ الكردية تريد محو تاريخٍ عشائرى ممتزج أكثر من الصورة النمطية، كما الهوية الحضرية الناشئة لتمسخهها صراعات عبثية. وكيف أن الفترات السابقة فى العراق وسوريا لم تؤسس حقا لتنمية حضرية، بمعنى المدينة التى تصهر الجميع فى مجتمعٍ مدنى يقوم على المواطنة.

فالقطار السورى الذى يربط دمشق بالقامشلى يأخذ طريقا طويلا يمر بحلب وكذلك هى الطرق السريعة ورحلات الحافلات. لا صلة مباشرة بين دمشق ودير الزور (عبر تدمر)، ولا تنمية حقيقية فى «الدير» رغم أنها منبع النفط الرئيسى الذى يخدم سوريا وغنية بالمياه. وتعامل سياسى ــ اجتماعى مغلوط مع المدينة والمحيط من قبل السلطة، يقوم مثلا على إرسال مسئول الأمن السابق عن «العشائر الطائفية اللبنانية»، هو جامع جامع، كى يدير المنطقة أيضا على أساسٍ عشائرى.
عندما تم أخذ القرار الأمريكى ــ الروسى بالقضاء على سيطرة «الدولة الإسلامية»، آلت ضفة الجزيرة للأمريكيين و«قوات سوريا الديموقراطية» وضفة الشامية إلى الروس والجيش السورى وحلفائه. هذا على عكس ما كان عليه الأمر فى الرقة والطبقة. وبكلفة بشرية باهظة، تم فك حصار عانت منه دير الزور الواقعة لصدفة الجغرافيا على الضفة الشامية لأكثر من أربع سنوات.

واليوم تتنازع على المدينة وجاراتها ميليشيات إيرانية وعراقية و«قوات سوريا الديموقراطية» وتنظيم داعش الذى ما زال ناشطا فى الجزيرة والبادية معا، ومن وراء الجميع إيران والولايات المتحدة وروسيا. حيث تموضعت القوات الأمريكية فى حقول نفط الجزيرة وعلى الضفة الأخرى الشامية فى «معبر التنف» وتموضعت القوات الروسية أيضا بعيدا على ضفة الجزيرة حتى القامشلى. ويُصبح اقتصاد المدينة وجوارها قائما على «التهريب» بين مناطق الشرذمة السورية.

هكذا تُترك المدينة وجوارها بوتقة لصراعٍ لا نهاية له، ولا معنى أيضا. فى حين أنها محور رئيس لتطوير محور تنمية ضرورى للنهوض للعراق، لوصله بالمتوسط، ولسوريا عبر ثرواتها الزراعية والنفطية، وللبنان فى أفق عودته يوما للنهوض. محورُ تنمية بأهمية ذلك من تركيا جنوب شرق الأناضول حتى الأردن والخليج. ومحورٌ أساسى إذا ما كان لـمشروع «الشام الجديدة» الذى تم طرحه بين العراق والأردن ومصر من جدوى.

فيأتى اقتراح لمد خط سكة حديدية تربط العراق (وإيران من خلفها) بحمص مرورا بنقطة البوكمال الحدودية وحدها حتى تدمر وحمص والساحل، دون العبور بدير الزور. وكأن التنمية والتواصل التجارى لا يُبنيان على وسائل المواصلات وتطوير المدن. وكأن الخروج من الماضى العشائرى لا يُبنى على مواطنة الحضارة المدينية.

عبثٌ فى وقتٍ ضائع… ونزاعات لا جدوى منها.

نقلا عن الشروق