خلال مشاركته في حفل نظمه المجلس الأعلى للأمازيغ، في ليبيا، في 21 يناير الجاري، بمناسبة إحياء رأس السنة الأمازيغية (2974)، بحضور عدد من الوزراء والسفراء المعتمدين لدى ليبيا، أعلن رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة السماح للأمازيغ بتسمية مدارسهم وأبنائهم بأسماء أمازيغية بشكل رسمي في مناطقهم، في خطوة هي الأولى في تاريخ البلاد. وأكد الدبيبة أنه أصدر تعليماته لوزيري التربية والتعليم والداخلية بـ”الإذن لمراقبات التعليم بالبلديات الناطقة بالأمازيغية، باقتراح تسمية المدارس التابعة لها، والسماح بتسجيل الأسماء الأمازيغية”.
وكما يبدو، تأتي هذه الخطوة من جانب الدبيبة كتوجه جديد، اعتماداً على عدد من العوامل المتشابكة، من أهمها: محاولة الدبيبة استرضاء الأمازيغ، والتوجه إلى استقطاب أصواتهم كـ”مكون نافذ” في مناطق الغرب الليبي، فضلاً عن تأسيس تحالف في مواجهة الشرق، خصوصاً حكومة الاستقرار برئاسة أسامة حماد، والجيش الوطني بقيادة المشير خليفة حفتر.
إلا أنه رغم هذه العوامل التي يعتمد عليها الدبيبة في التوجه إلى المكون الأمازيغي، فإن هناك عدداً من المسارات المحتملة، بخصوص مستقبل العلاقة بين الدبيبة وحكومته وبين الأمازيغ، أهمها: تراجع التوتر بين الطرفين بعد أن كاد يصل إلى مواجهة عسكرية منذ شهرين، إضافة إلى استمرار التحالفات الميدانية في الغرب، وكذلك تمدد تحالفات الجيش نحو المنطقة نفسها.
دوافع رئيسية
تتمثل أهم العوامل الدافعة لتوجه الدبيبة إلى التقارب مع المكون الأمازيغي في ليبيا في:
1- محاولة “استرضاء” المجلس الأعلى للأمازيغ: واجه الأمازيغ، في مرحلة ما بعد عام 2011، تهميشاً ثقافياً، لا سيما في ظل انشغال المكونات السياسية والمجتمعية في ليبيا في صراعات سياسية عديدة، كان لها دور بارز في ما انتهى إليه المشهد السياسي الليبي حالياً. ويبدو أن الدبيبة يدرك أهمية تركيزه في هذا الصدد على قضية الأسماء على نحو يوحي بأنه يسعى إلى احتواء التداعيات التي فرضتها بعض القرارات الإدارية، على غرار تلك التي اتخذتها مصلحة الأحوال المدنية في الغرب بمنع تداول الأسماء غير العربية استناداً لما جاء في القانون رقم 24 لعام 2011.
واللافت في هذا السياق، أن تطرق الدبيبة إلى هذه القضية كان قد جاء في إثر اعتراض المجلس الأعلى للأمازيغ على قرارات وزير الحكم المحلي، ووزير الداخلية المكلف بحكومة الوحدة الوطنية، “ضد بلديات الأمازيغ، عبر وقف عمداء بلديات أمازيغية، وجعلهم في موضع الشبهات، وتجميد الحسابات المصرفية للبلديات”.
فقد اتهم المجلس حكومة الوحدة باتخاذ “إجراءات غير قانونية وتعسفية” ضد بلديات الأمازيغ؛ وأعلن عن اتخاذ إجراءات تصعيدية ضد الحكومة، بل وتعهد بأنه “لن يقف مكتوف الأيدي، ولن ترهبه مثل هذه التصرفات”.
2- توظيف أصوات المكونات النافذة: يسعى الدبيبة عبر تلك الخطوة إلى استقطاب أصوات الأمازيغ لتأييد المقاربة التي تتبناها حكومته في مواجهة الضغوط السياسية التي تتعرض لها من جانب قوى ومؤسسات عديدة في ليبيا، خاصة فيما يتعلق بالموقف من الاستحقاقات السياسية التي يجري العمل على الإعداد لها، على غرار الانتخابات الرئاسية والبرلمانية.
ويعني ذلك أن الدبيبة ربما يحاول من خلال هذه الخطوة الاستناد إلى ظهير مجتمعي جديد يمكن أن يساعده في تعزيز موقعه في مواجهة القوى المنافسة له أو المناوئة للبرنامج السياسي للحكومة. ومن هنا، فإنه حرص على احتواء الأزمة التي نشبت بين الحكومة والأمازيغ، في 18 نوفمبر الماضي، بشأن إدارة منفذ رأس جدير مع تونس، بعد أن حاولت وزارة الداخلية نشر قواتها لإحكام السيطرة على المعبر، قبل أن يتدخل المجلس الرئاسي ويُعيد قوات الداخلية إلى مواقعها.
3- تأسيس تحالف سياسي جديد: يأتي توجه الدبيبة نحو تعزيز التقارب مع الأمازيغ على خلفية تصاعد حدة الاستياء ضد الإجراءات التي تتخذها حكومته على المستويين السياسي والشعبي، خاصة بعد دمج مديريات الأمن، وتغيير تبعية بعض المؤسسات التعليمية في المناطق الأمازيغية، إلى الدرجة التي أصبح فيها بعض البلديات الأمازيغية يُهدد بالتوجه للانضمام لحكومة الاستقرار برئاسة أسامة حماد.
مسارات محتملة
رغم العوامل التي استند إليها الدبيبة في محاولة التقارب مع الأمازيغ، فإن ثمة عدداً من المسارات المحتملة بشأن مستقبل العلاقة بين الطرفين: المسار الأول، يتمثل في تراجع التوتر بين المكون الأمازيغي والدبيبة، فبالرغم من أن هناك أطرافاً داخل حكومة الوحدة الوطنية ترى ضرورة فرض السيطرة الأمنية والعسكرية على غرب البلاد عموماً، وعلى معبر رأس جدير البري مع تونس بشكل خاص، الذي يُسيطر عليه الأمازيغ، وكذلك على معبر ذهيبة وازن، وهما المعبران الحدوديان بين ليبيا وتونس؛ إلا أن خطوة الدبيبة بخصوص قضية الأسماء الأمازيغية سوف تدفع إلى تراجع، إن لم يكن خفوت، التوتر في غرب البلاد.
وفيما يبدو، فقد أدى فشل حكومة الدبيبة في منع أمازيغ ليبيا من الانفراد بإدارة معبر رأس جدير، ورد فعلهم الحاد والغاضب، بل وتحذير الدبيبة من إمكانية اندلاع “حرب” في المنطقة الغربية؛ هو ما دفع الدبيبة إلى تخفيف التوتر مع الأمازيغ، ومحاولة استقطابهم كـ”كتلة” مجتمعية مهمة في أي استحقاق سياسي قادم.
والمسار الثاني، يتعلق بالتوجه إلى التحالفات الميدانية في الغرب، فبعد الخطوة الرسمية الأولى في تاريخ ليبيا بإعلان الهوية الأمازيغية من خلال الأسماء، للمواليد والمدارس في مناطقهم، من المتوقع أن ينجح الدبيبة في استمالة المكون الأمازيغي، والتوجه إلى تكوين ما يُشبه “التحالف الميداني” معهم في المنطقة الغربية.
فالمعروف أن الأمازيغ لهم تشكيلات عسكرية تابعة لهم، وهو ما بدا بوضوح في أزمة معبر رأس جدير، في 18 نوفمبر الماضي، بينهم وبين حكومة الدبيبة؛ وبالتالي، من المحتمل أن يتكون تحالف ميداني بين المليشيات العسكرية التابعة لحكومة الدبيبة وبين مليشيات الأمازيغ، أو في الحد الأدنى التنسيق العسكري بين هذه المليشيات جميعها من قبل الدبيبة.
والمسار الثالث، ينصرف إلى تمديد تحالفات الجيش الوطني في الغرب، فمع محاولات الدبيبة التقارب مع المكون الأمازيغي فإن الجيش بقيادة المشير خليفة حفتر سيحاول من جهته التمدد عبر عدد من التحالفات مع بعض التشكيلات المسلحة في المنطقة الغربية، عبر استغلال خشية الأمازيغ من اتجاه الدبيبة لإحكام السيطرة على المنطقة الغربية.
وهنا، يأتي التحالف بين حفتر والقائد العسكري في غرب ليبيا أسامة جويلي، ضمن أسباب توجه عبد الحميد الدبيبة نحو المكون الأمازيغي؛ فهذا التحالف يُثير مخاوف حكومة الوحدة الوطنية من إمكانية فقدان السيطرة على بعض المواقع في غرب البلاد، بما في ذلك مناطق الأمازيغ.
اصطفاف سياسي
على ضوء ذلك، يُمكن القول إن رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة يحاول تأسيس ما يمكن تسميته “اصطفافاً سياسياً” في ليبيا، وتحديداً في المنطقة الغربية، حيث العاصمة طرابلس، وحيث مناطق المكون الأمازيغي، الكتلة الأهم بعد المكون العربي، من حيث العدد ومن حيث التأثير.
إذ تمثل خطوة الدبيبة بالسماح للأمازيغ بتسمية مدارسهم وأبنائهم بأسماء أمازيغية بشكل رسمي في مناطقهم، مكسباً مهماً لهذا المكون من جانب، وفي الوقت نفسه محاولة من قبل أحد أطراف الصراع السياسي، الدبيبة وحكومته، لموازنة الاتجاه الذي تبنته بعض البلديات بالتقارب مع الجيش الوطني وحكومة الاستقرار من جانب آخر.