قام وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين بزيارة طهران، في 13 أبريل الجاري، حيث التقى الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبداللهيان. وقد ضم الوفد الذي ترأسه الوزير العراقي مستشار الأمن القومي قاسم الأعرجي والعديد من المسؤولين الأمنيين. ويوحي ذلك في المقام الأول بأن الملفات الأهم التي طغت على المباحثات اكتسبت طابعاً أمنياً بامتياز من اللحظة الأولى.
اعتبارات عديدة
يُمكن تفسير أسباب الزيارة في هذا التوقيت في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:
1- تجنب توسيع نطاق التصعيد بين إيران وإسرائيل: يبدو أن العراق يتخوف من أن التصعيد قد يتواصل بين إيران وإسرائيل على الساحة العراقية خلال المرحلة القادمة، وأن الهجمات التي شنتها الأولى في محافظة أربيل ربما تكون هي البداية لذلك، على أن تتبعها هجمات أخرى بين الطرفين، على نحو سوف يفرض تهديدات مباشرة لأمن واستقرار العراق خلال المرحلة المقبلة. وتستحضر بغداد هنا المخاطر الأمنية التي تعرضت لها -وما زالت- بسبب تحول الأراضي العراقية إلى ساحة لتصفية الحسابات بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، خاصة في مرحلة ما بعد اغتيال قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري قاسم سليماني، في 3 يناير 2020، وما تلاه من هجمات صاروخية إيرانية على قاعدتين عراقيتين تتواجد بهما قوات أمريكية في العراق.
2- توجيه إيران إشارات تصعيدية جديدة: كان لافتاً أن الزيارة تلت وتوازت مع إشارات تصعيدية إيرانية جديدة، لم تكن بغداد بعيدة عنها. فقد حرصت إيران، في 11 أبريل الجاري، على تعيين قيادي جديد في الحرس الثوري سفيراً لدى العراق هو حسين آل صادق، خلفاً للسفير السابق القيادي في الحرس الثوري أيضاً إيرج مسجدي. كما أعلن قائد القوات البرية في الحرس الثوري محمد باكبور، في يوم الزيارة نفسه، أن “قتل جميع القادة الأمريكيين لا يكفي للثأر لمقتل سليماني”. ويعني ذلك -في مجمله– أن إيران تُواصل سياستها التصعيدية في المنطقة، ولا سيما في العراق، على نحو يوحي بأن الأخيرة قد تشهد مرحلة جديدة من المواجهات المباشرة وغير المباشرة، بين إيران من ناحية، وكل من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل من ناحية أخرى.
3- تجنّب تحول العراق إلى منصة لمهاجمة دول الجوار: لا تنحصر المباحثات الأمنية بين العراق وإيران على مجرد العمل على وقف تحويل الأولى إلى ساحة لتصفية الحسابات مع قوى مثل الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، وإنما إلى عدم تحولها لنقطة انطلاق لمهاجمة بعض دول الجوار، وفي مقدمتها دول مجلس التعاون الخليجي، على غرار الإمارات.
فقد كان لافتاً أن الهجوم الذي تعرضت له الإمارات، في 2 فبراير الماضي، كان مصدره العراق، حيث أعلنت “ألوية الوعد الحق” مسؤوليتها عنه. وهنا، فإن انطلاق هذا الهجوم من الأراضي العراقية، وبالتالي تحويل العراق إلى ما يمكن تسميته “يمناً جديدة” تمثل تهديداً لدول الجوار، يمكن أن يخصم من الزخم الذي بدأت تحظى به العلاقات العراقية-العربية، وتحديداً العراقية-الخليجية. ومن هنا، فإن لدى العراق مصلحة في وقف العمليات والهجمات التي تقوم بها تلك المليشيات لخدمة مصالح وحسابات طهران.
4- تجديد الحوار السعودي-الإيراني: توقف الحوار السعودي-الإيراني الذي ترعاه دولة العراق عند جولته الرابعة، حيث فضّلت إيران تأجيل الجولة الخامسة التي حدد ميعادها قبل ذلك. وفي كل الأحوال، فإن العراق يرى أن ممارسة دور الوسيط في الحوار بين طهران والرياض يمكن أن يعزز من قدرته على تطوير علاقاته مع دول الجوار، وفي الوقت نفسه يساهم في تحييد أية تداعيات سلبية قد تنجم عن عودة التوتر والتصعيد إلى العلاقات بين الطرفين، حيث سبق أن تبنت “ألوية الوعد الحق” (القريبة من عصائب أهل الحق وكتائب حزب الله) المسؤولية عن هجوم تعرضت له السعودية في 23 يناير 2021.
وقد كان لافتاً أن تقارير إيرانية عديدة أشارت إلى أن الجولة الخامسة من الحوار بين الرياض وطهران سوف تُعقد قبل عيد الفطر، حيث عقدت الجولة الرابعة والأخيرة في 21 سبتمبر الماضي.
5- تعزيز جهود تسوية الأزمة اليمنية: جاءت الزيارة في أعقاب التطورات التي شهدها الملف اليمني في الفترة الأخيرة، بعد المبادرة الخليجية بعقد مشاورات يمنية-يمنية في الرياض، ثم تشكيل مجلس قيادة جديد، وإبرام هدنة لمدة شهرين برعاية أممية. واللافت في التقرير السابق أنه أشار إلى ترحيب إيران بالمبادرة الخليجية الأخيرة في اليمن، على نحو ربما يكون قد دفع العراق إلى محاولة الانخراط في الاتصالات الإيرانية-الخليجية في الوقت الحالي أملاً في أن يؤدي ذلك إلى تعزيز الجهود المبذولة للوصول إلى تسوية للأزمة اليمنية. وفي رؤية بغداد، فإن إنجاز صفقة أو تسوية في اليمن يمكن أن يفرض تداعيات إيجابية على العراق، على الأقل من ناحية إنجاح الحوار الإيراني-السعودي، وتقليص حدة التصعيد بين طهران من جهة وكل من الرياض وأبوظبي من جهة أخرى، خاصة في ظل الاتهامات التي توجهها الأولى، مع المليشيات الشيعية الحليفة لها، إلى الأخيرتين بمحاولة تعزيز نفوذهما داخل العراق، ودعم بعض القوى السياسية المعتدلة في مواجهة حلفائها.
6- ممارسة دور الوسيط بين طهران وواشنطن: لا يُمكن استبعاد أن تكون لدى العراق رغبة في ممارسة دور الوسيط أو “ناقل الرسائل” بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية. وتتزايد أهمية ذلك في ضوء الجمود الحالي الذي تشهده المفاوضات التي كانت تجري في فيينا بين إيران ومجموعة “4+1” بمشاركة أمريكية غير مباشرة حول الاتفاق النووي. ويعود هذا الجمود إلى سببٍ يحظى بأهمية خاصة من جانب العراق، وهو مطالبة إيران برفع اسم الحرس الثوري من قائمة التنظيمات الإرهابية الأجنبية التي تُصدرها وزارة الخارجية الأمريكية. وتبدو الولايات المتحدة الأمريكية مترددةً في الموافقة على ذلك، بل إنها حاولت الحصول على مقابل سياسي في حالة الإقدام على خطوة من هذا النوع، ولا سيما ما يتعلق بدفع إيران إلى خفض التصعيد في المنطقة، أو التوقف عن محاولات “الانتقام” لسليماني.
وهنا، فإن العراق ربما يرى أن الوصول إلى تفاهمات في هذا الصدد، أو إنجاز صفقة فرعية منفصلة عن مفاوضات فيينا، يمكن أن يدعم جهود الحكومة لتعزيز حالة والأمن والاستقرار، خاصة أن التصعيد بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية يجري في القسم الأكبر منه على الساحة العراقية، فضلاً عن أن الأخيرة هي الساحة التي قد تختارها إيران في حالة ما إذا قررت استكمال محاولات “الانتقام” لسليماني، خاصة أن المحاولة الأولى جرت بدورها على تلك الساحة في 8 يناير 2020، بهجمات صاروخية استهدفت قوات أمريكية في قاعدتين عراقيتين بعد خمسة أيام من اغتيال سليماني بالقرب من مطار بغداد.
وربما لا تنفصل الزيارة عن محاولات إيران الحصول على أموالها المجمدة في الخارج، حيث لديها أرصدة في العراق نظير صادرات الطاقة. وقد توازت الزيارة مع إعلان إيران عن احتمال رفع الحظر عن نحو 7 مليارات دولار لدى إحدى الدول، ونقل هذه الأموال إلى حساب البنك المركزي الإيراني في سلطنة عُمان.
تجنب التصعيد
إن ما سبق -في مجمله- يوحي بأن العراق ربما يرى أن أي مسار محتمل قد تتجه إليه المفاوضات في فيينا لن يمنع التصعيد في المنطقة، ولا سيما على أراضيه، خاصة بين إيران وإسرائيل، التي قد تتجه بدورها إلى توسيع نطاق المواجهة مع إيران لتمتد من سوريا إلى العراق، مع استهداف مواقع المليشيات الشيعية الموالية لإيران، والتي سبق أن هددت بالانخراط في عمليات وهجمات ضد إسرائيل ومصالحها في المنطقة، وهو مسار يرى العراق أنه سوف يفرض عواقب وخيمة على أمنه واستقراره.