صادق مجلس الشيوخ الأمريكي بالإجماع، في 11 مايو 2022، وبتصويت سريع من دون أي اعتراض، على مشروع قرار غير ملزم، يدين الانقلاب العسكري في السودان ودعم الشعب السوداني في تطلعاته للديمقراطية، وتضمن القرار عدداً من البنود الهامة، وذلك على النحو التالي:
1- احترام التظاهر السلمي، حيث برزت دعوة السلطات الانتقالية في السودان لاحترام حقوق الشعب السوداني في التظاهر السلمي، مع تحميل العناصر التابعة لها مسؤولية استعمال القوة المفرطة والانتهاكات بحق المتظاهرين.
2- إدانة انقلاب 25 أكتوبر، على السلطة الانتقالية التي كانت تحظى بدعم دول الترويكا (الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، والنرويج) والاتحاد الأوروبي، وسويسرا، والاعتراف برئيس الوزراء المستقيل “عبدالله حمدوك” وحكومته كقادة دستوريين للحكومة الانتقالية السودانية.
3- بدء إجراءات بناء الثقة، وهو ما اتضح في مطالبة الجيش السوداني بالإفراج الفوري عن جميع المسؤولين الحكوميين المدنيين، وأعضاء المجتمع المدني، وغيرهم من الأفراد المحتجزين بسبب الانقلاب.
4- تسليم السلطة للمدنيين، عبر نقل قيادة مجلس السيادة الانتقالي لعضو مدني في مجلس السيادة تماشياً مع الدستور الانتقالي، وهو ما يعني رفضهم بقاء الفريق أول ركن “عبدالفتاح البرهان” على رأس السلطة الانتقالية الحالية.
5- فرض عقوبات على قادة الانقلاب، من خلال مطالبة وزارة الخارجية الأمريكية بالتحديد الفوري لكافة قادة الانقلاب وشركائهم، والنظر في فرض عقوبات مستهدفة لهم.
دوافع متعددة
يمكن تفسير تصديق الكونجرس الأمريكي على هذا القانون في الوقت الراهن، من خلال مجموعة من العوامل التي دفعت أعضاء الكونجرس للتصويت على مشروع هذا القانون، والذي جاء عقب مرور سبعة أشهر على إطاحة الجيش بالحكومة الانتقالية المعترف بها دولياً، ومن أهمها ما يلي:
1- استخدام القوة المفرطة لقمع التظاهرات السلمية، اتهمت واشنطن المكون العسكري بعدم احترام حقوق الشعب السوداني في التظاهر السلمي، والقيام في المقابل باستخدام مقاربة أمنية تعتمد على الاستخدام المفرط للقوة بهدف قمع المتظاهرين السلميين الرافضين للانقلاب العسكري على السلطة الانتقالية، وما ترتب على ذلك من وقوع العشرات من القتلى إلى حوالي 95 متظاهراً، ومئات المصابين، الأمر الذي دفع لجان المقاومة إلى مواصلة التظاهر، ووضع جداول زمنية محددة للتظاهر السلمي المناهض للانقلاب العسكري في البلاد.
2- الانقلاب العسكري على السلطة الانتقالية، يعد السبب الرئيسي وراء التصديق على مشروع القانون الخاص بتطورات الأوضاع الحالية في السودان، متمثلاً في قيام قادة الجيش السوداني بالإطاحة بالحكومة الانتقالية السابقة برئاسة “عبدالله حمدوك”، والانقلاب على السلطة المدنية الانتقالية بدعم من المكون العسكري في مجلس السيادة الانتقالي وعلى رأسهم الفريق “حمدان دقلو” (الجنرال حميدتي)، وذلك رغم أن رئيس الحكومة الانتقالية السابقة “حمدوك” كان يحظى بتأييد إقليمي ودولي، خاصة وأنه قد أحرز نجاحات عدة على المستويات السياسية والاقتصادية داخل السودان وخارجها، ومن أبرزها إتمام الاتفاق النهائي للسلام، وإحراز تقدم ملموس في قضية محاكمة الرئيس المعزول “عمر البشير” بسبب تورطه وعدد من أعوانه في ارتكاب جرائم حرب وانتهاكات لحقوق الإنسان، وتشكيل الحكومة السابقة كذلك لجاناً متخصصة لمكافحة الفساد؛ إلا أن الانقلاب العسكري على السلطة في أكتوبر الماضي أضاع كافة هذه الجهود، وهو ما أثار غضب واشنطن.
3- تعثر إجراءات تشكيل حكومة وحدة وطنية، فمنذ الانقلاب العسكري على السلطة الانتقالية في أكتوبر الماضي، فشلت كافة جهود الجيش السوداني في تشكيل حكومة وحدة وطنية بقيادة مدنية حتى الآن، كما فشل الاتفاق السياسي الذي تم توقيعه بين الفريق “عبدالفتاح البرهان” ورئيس الحكومة الانتقالية السابقة “عبدلله حمدوك” في نوفمبر الماضي قبل أن يتقدم باستقالته بسبب عدم قدرته على تشكيل حكومة وحدة وطنية جديدة في ظل تدخلات الجيش في الحياة السياسية بهذا الشكل الحالي، ورغم قيام الفريق “البرهان” بتشكيل حكومة تصريف أعمال مصغرة، إلا أنها لم تستطع أن تحل محل الحكومة السابقة في تحسين الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية غير المستقرة، والتي ازدادت سوءاً خلال الأشهر السبعة الأخيرة، مع عدم استبعاد أن تؤدي سياسات الجيش الحالية إلى مزيد من التدهور وعدم الاستقرار على كافة المستويات.
4- عدم استجابة السلطة الانتقالية للمطالب الدولية، ترى الإدارة الأمريكية الحالية برئاسة “جو بايدن” أن السلطات الانتقالية الحالية التي يترأسها الجيش السوداني منذ 25 أكتوبر الماضي وحتى الآن، لم تستجب للمطالب والضغوط الدولية الخاصة بتسليم السلطة لقوى سياسية مدنية ووقف العنف، وعدم التجاوب مع الجهود الدولية المبذولة لتسوية الأزمة السياسية الراهنة في البلاد، في ظل تصاعد الخلافات بين المكونين المدني والعسكري؛ إذ بدا المكون العسكري أكثر تمسكاً بالبقاء في السلطة الانتقالية وإقصاء الحكومة الانتقالية المدنية السابقة برئاسة “عبدالله حمدوك”، وذلك رغم قيام واشنطن بتعليق مساعداتها الاقتصادية للسودان والتي كانت مقررة بحوالي مليار دولار، وكذلك تراجع دول مجموعة أصدقاء السودان عن تقديم مساعدات اقتصادية بقيمة 1.8 مليار دولار بسبب الانقلاب العسكري على السلطة الانتقالية. وقد عبرت عن ذلك التصريحات الأخيرة لمساعدة وزير الخارجية الأمريكي لشؤون أفريقيا “مولي في” التي طالبت فيها الفريق “عبدالفتاح البرهان” بتنفيذ الوعود التي قطعها على نفسه ببناء إجراءات الثقة، ومنها: رفع حالة الطوارئ، والإفراج الفوري عن المعتقلين السياسيين، وإنهاء العنف ضد المتظاهرين السلميين؛ إلا أن تعنت المكون العسكري دفع واشنطن للتفكير في ممارسة مزيد من الضغوط على الجيش والتلويح بفرض عقوبات.
دلالات هامة
يُشير مضمون مشروع القرار الذي صدّق عليه الكونجرس الأمريكي بشأن إدانة الانقلاب العسكري على السلطة الانتقالية في السودان ودعم مطالب الشعب السوداني، إلى مجموعة من الدلالات السياسية الهامة، من أبرزها ما يلي:
1- تصعيد أمريكي ضد السلطة الانتقالية، يعكس مشروع القرار الأمريكي تبني واشنطن خطاباً تصعيدياً، وتحديداً تجاه قادة الجيش السوداني وعلى رأسهم الفريق “عبدالفتاح البرهان” ونائبه الجنرال “حميدتي” وباقي أعضاء المكون العسكري الأعضاء في مجلس السيادة الانتقالي، خاصة وأن هذا القرار يُتيح لوزير الخارجية الأمريكي إصدار عقوبات تستهدف هؤلاء القادة، وقد تضمن هذه العقوبات المنع من السفر إلى الأراضي الأمريكية، وتجميد ما لهم من أصول وأموال في البنوك الأمريكية، وحظر الشركات الأمريكية والأوروبية من التعامل مع السلطات الانتقالية السودانية. والخطير في هذا الأمر هو ما ينص عليه القرار من دعوة مجموعة أصدقاء السودان وأعضاء المجتمع الدولي لفرض عقوبات على قادة الجيش السوداني. ولعل تجربة الأزمة الأوكرانية الأخيرة وتحالف واشنطن وشركائها الأوروبيين في فرض عقوبات على الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” وقادة قواته المسلحة دليل على إمكانية تكرار هذا السيناريو مع قادة الجيش السوداني في حالة عدم استجابتهم للمطالب الأمريكية في هذا الخصوص، خاصة وأن هذا القرار تم اتخاذه عقب زيارات مكثفة قام بها عدد كبير من المسؤولين الأمريكيين للتعرف على حقائق الأمور على الأرض.
2- فقدان الدعم الاقتصادي للسودان، وهو ما يتم من خلال وقف كافة أشكال المساعدات الاقتصادية الأمريكية والأجنبية للخرطوم، الأمر الذي يعني زيادة حدة الأوضاع الاقتصادية وما لها من تداعيات اجتماعية خطيرة داخل المجتمع السوداني، خاصة وأن مشروع القرار الأمريكي يدعو وزارة الخزانة الأمريكية لاستخدام صوت الولايات المتحدة الأمريكية والتصويت داخل المؤسسات المالية الدولية لتعليق إجراءات حصول الخرطوم على قروض أو مساعدات اقتصادية لأغراض غير إنسانية، وفي الوقت نفسه تعليق عملية إعفاء الخرطوم من ديونها الخارجية كما كان متفقاً عليه من قبل، وربط ذلك بإعادة الوضع الانتقالي الدستوري وفقاً للوثيقة الدستورية الموقعة في عام 2019، الأمر الذي من شأنه زيادة حدة الأزمة الاقتصادية المتفاقمة في البلاد، وفي الوقت نفسه تحميل قادة الجيش مسؤولية تدهور الأوضاع الاقتصادية داخل البلاد بشكل كامل.
3- محاولة فرض عزلة دولية، هناك تصعيد أمريكي حالي ضد الخرطوم بسبب الانقلاب العسكري على السلطة الانتقالية، في ظل رفض المكون العسكري تسليم السلطة للقوى السياسية إلا بإجراء انتخابات برلمانية تسفر عن تشكيل حكومة وطنية منتخبة، وهو ما أكدته التصريحات الأخيرة لكل من الفريق “البرهان” ونائبه “الفريق “حميدتي”؛ ومع استمرار هذه الأوضاع على النحو الحالي فستعود السودان مرة أخرى إلى العزلة الدولية التي كانت مفروضة عليها في عهد الرئيس المعزول “عمر البشير” بسبب سياساته ومواقفه الداخلية وما كان لها من انعكاسات سلبية على صورة السودان أمام المجتمع الدولي، وهو ما يعني العودة للمربع صفر مرة أخرى.
4- تعثر سياسي للسلطة الانتقالية السودانية، رغم عدم إلزامية مشروع القرار الذي صدق عليه الكونجرس في تنفيذ ما تضمنه من بنود وإجراءات صارمة ضد السلطات الانتقالية السودانية الحالية، خاصة وأن الخارجية الأمريكية قد لا تقوم بتنفيذ أي من هذه البنود أو حتى كلها؛ إلا أن تكرار الحديث الأمريكي عن إمكانية فرض عقوبات ضد قادة الجيش السوداني يعكس القلق الأمريكي من استمرار الأوضاع السياسية غير المستقرة في السودان، وفي الوقت نفسه يؤكد ذلك فشل قادة الجيش السوداني في إدارة الحياة السياسية بعد انقلابهم على السلطة الانتقالية، وامتداد تداعيات هذ التعثر السياسي إلى التاثير سلباً على العلاقات السودانية الأمريكية.
5- حماية المصالح الأمريكية في الخرطوم، يأتي التلويح بإمكانية فرض عقوبات على قادة الجيش السوداني بشكل منفرد بعد فرض وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات على قوات الاحتياطي المركزي السودانية في شهر مارس الماضي، بسبب استخدام القوة المفرطة ضد المتظاهرين السلميين ضد الانقلاب العسكري على السلطة، ومطالبتهم الجيش بتسليم السلطة الانتقالية للقوى السياسية المدنية، وفي ذلك مؤشر هام على توظيف واشنطن لأداة فرض العقوبات بغرض ممارسة المزيد من الضغوط على الجيش السوداني لتقديم تنازلات لحماية المصالح الأمريكية وتمديد النفوذ الأمريكي في السودان والضغط عليها لعدم إقامة قاعدة عسكرية بحرية روسية في بورتسودان بالبحر الأحمر.
تحول نوعي
خلاصة القول، يعكس مشروع القرار الذي صدق عليه الكونجرس تحولاً نوعياً في الموقف الأمريكي تجاه تجربة الحكم الانتقالي في السودان، فبعد أن أيدت واشنطن خطوات وإجراءات بناء نظام سياسي جديد في السودان يقوم على تولي القوى السياسية المدنية الحكم بعد إسقاط نظام الإنقاذ الذي سيطر عليه الإخوان المسلمون والجيش لمدة ثلاثين عاماً، وقامت بتقديم كافة أنواع الدعم السياسي والاقتصادي لحكومة “حمدوك” المقالة؛ إلا أن الانقلاب العسكري على السلطة الانتقالية دفع واشنطن لتبني خطاب تصعيدي ضد قادة الجيش السوداني، مع عدم استبعاد فرض عقوبات على قادة الجيش في ظل غياب مؤشرات الاستجابة للجهود الدولية الساعية لحلحلة الأزمة السياسية الراهنة.