أبدت تركيا حرصاً لافتاً على المشاركة في الترتيبات الأمنية المحتملة في قطاع غزة خلال المرحلة المقبلة بعد “سكوت المدافع”، وظهر ذلك في طرح صيغة “الضامنين” لإنفاذ التهدئة ووقف مستدام لإطلاق النار، وإبداء الاستعداد للمشاركة في حل أزمة الأسرى، بالإضافة إلى التلميح بأهمية مشاركة الكيانات الأممية في حفظ السلام بين طرفي الصراع. ويرتبط التوجه التركي بدوافع معتبرة، منها تجنب انهيار العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، وإظهار الدعم الصريح لحماس، بالإضافة إلى تعزيز مركزيتها في الشرق الأوسط، وترسيخ دورها كوسيط في الصراعات الإقليمية.
فقد كشفت العديد من التصريحات التركية في الفترة الأخيرة، النقاب عن اهتمام تركيا بالترتيبات الأمنية المحتملة في قطاع غزة بعد صمت البنادق، وحال إقرار دائم لحالة التهدئة بين إسرائيل وحركات المقاومة الفلسطينية وخاصة حماس في قطاع غزة. حيث أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في تصريحات له، في 23 نوفمبر الفائت، أن بلاده “مستعدة لتولي المسؤولية مع دول أخرى في الهيكل الأمني الجديد، الذي سيتم إنشاؤه بعد توقف الحرب في غزة، بما في ذلك آلية الضامنين”. وهذا ما يطرح التساؤلات بشأن الدوافع التي تقف وراء اهتمام تركيا بمستقبل الوضع الأمني في غزة، ولا سيما في ظل تصاعد التوتر المحتدم بين إسرائيل وتركيا بعد تبني الأخيرة خطاباً متشدداً تجاه الممارسات الإسرائيلية ضد المدنيين في غزة، ووصفها بالإبادة الجماعية.
مؤشرات كاشفة
برزت أخيراً مؤشرات عدة ضمن تصريحات تركية، تُظهر اهتمام أنقرة بالأوضاع الأمنية في غزة بعد توقف الحرب، ومن أبرز هذه المؤشرات ما يلي:
1- طرح صيغة الضامن لإنفاذ التهدئة بين طرفي الصراع: اقترحت تركيا، في 17 أكتوبر الماضي، على لسان وزير خارجيتها “صيغة ضمان” من أجل معالجة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وتخفيف التصعيد الذي تمارسه إسرائيل على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر الماضي رداً على عملية “طوفان الأقصى” التي نفذتها حركة حماس على غلاف مستوطنات غزة. وترتكز “الصيغة” التي اقترحتها أنقرة على وجود طرفين، يتكون الأول من دول تكون ضامنة للجانب الفلسطيني في المنطقة، من بينها تركيا، بينما يتألف الطرف الثاني من دول ضامنة لإسرائيل. ووفقاً للآلية التركية المقترحة، تكون الدول الضامنة ملتزمة بتحمل مسؤولية تنفيذ ورعاية ما يضمن استمرار التهدئة بين طرفي الصراع، وهو ما سيسمح تدريجياً للضامنين بتوفير بيئة خصبة لدفع طرفي الصراع للجلوس على الطاولة للتفاوض لإيجاد تسوية سلمية دائمة وحل للقضية الفلسطينية.
2- الاستعداد للمشاركة في صفقة الأسرى والمحتجزين: تمثل قضية الأسرى واحدة من أهم القضايا التي تشكل ضغطاً على إسرائيل، وكذلك تمثل أولوية لدى حركة حماس، إذ لا تزال تواجه الأولى ضغوطاً داخلية للإفراج عن باقي الأسرى المحتجزين، بينما تسعى حماس إلى توظيف ملف الرهائن لديها للإفراج عن الأسرى المحتجزين في سجون الاحتلال الإسرائيلي. في هذا السياق، حرصت تركيا التي تربطها علاقات أيديولوجية مع حماس، ومصالح متنوعة مع إسرائيل، على أن تكون طرفاً فاعلاً في هذه القضية، التي تحظى بأهمية لدى طرفي الصراع، والعديد من الأطراف الدولية المنخرطة في الأزمة. وهنا، يمكن فهم التصريحات التي أطلقها الرئيس أردوغان، في 9 أكتوبر الماضي، عندما قال: “نحن في تركيا نريد أن نؤكد للجميع أننا جاهزون لأي نوعٍ من الوساطة، بما في ذلك تبادل الأسرى، في حال طلبت الأطراف منا ذلك”.
3- الترويج لنماذج حفظ السلام الأممية: مع حدود الاستجابة لصيغة الضامن التي طرحتها تركيا، وتهميش دورها في صفقة تبادل الأسرى التي تمت مؤخراً بين إسرائيل وحماس، سعت تركيا من وراء الستار إلى الترويج لمشروع نشر قوات لحفظ السلام في قطاع غزة في حال التوصل إلى ترتيب من هذا القبيل، وكشفت عن إمكانية المشاركة فيه. ويبدو هذا النموذج مقبولاً وفعالاً لدى تركيا، خصوصاً أنها شاركت في وقت سابق ضمن حلف الناتو في عمليات حفظ السلام في كل من أفغانستان وكوسوفو، كما أن لديها قوات ضمن بعثة حفظ السلام الأممية في جنوب لبنان، الأمر الذي يجعل من دورها في مثل هذا الترتيب حيوياً.
دوافع متنوعة
ثمة العديد من الاعتبارات التي تقف وراء سعي تركيا للاهتمام بالأوضاع الأمنية في قطاع غزة خلال المرحلة المقبلة، ويمكن بيان ذلك على النحو التالي:
1- تقليل التوتر مع تل أبيب: ثمة توتر لا تخطئه عين بين أنقرة وتل أبيب، وكشف عنه التحول اللافت في الخطاب التركي ضد الممارسات الإسرائيلية في قطاع غزة، خاصة بعد استهداف المشافي، وإعلان الرئيس أردوغان في 18 نوفمبر الجاري، أن بلاده ستتقدم بمشاركة من ألفي محامٍ بشكوى إلى الجهات المعنية ضد المجازر الإسرائيلية في غزة. ولم يكن هذا الانتقاد هو الأول من نوعه، ففي نهاية أكتوبر الماضي، قال أردوغان إن “إسرائيل فقدت تماماً عقلية الدولة، وباتت تتصرف كتنظيم”، وهو ما أثار غضب إسرائيل، وظهر ذلك في سحب بعثتها الدبلوماسية من أنقرة، فضلاً عن دعوة وزير المالية الإسرائيلي لإعادة مراجعة العلاقات مع تركيا.
في هذا السياق، فإنّ اهتمام تركيا بالأوضاع الأمنية في غزة، وترويجها لنموذج الضامن، لا ينفصل عن رغبتها في ضبط إيقاع التوتر مع إسرائيل، وحماية العلاقات الدبلوماسية العائدة لتوها بين البلدين، من خلال إظهار تركيا كوسيط متوازن وغير منحازٍ لأيٍّ من طرفي الصراع.
2- جذب انتباه الغرب لدور أنقرة في إنهاء الصراع: يرتبط الاهتمام التركي بقضية الترتيبات الأمنية في قطاع غزة، في جانب معتبر منه، بحرص أنقرة على جذب اهتمام القوى الغربية وبخاصة واشنطن بدور أنقرة المحتمل لإنهاء الصراع. ويبدو أن أنقرة باتت تشعر بالقلق مع تهميش دورها في الأزمة الراهنة لصالح القاهرة والدوحة، وهو ما يعني من وجهة نظر تركيا تراجع مركزية دورها في استراتيجية القوى الغربية المنخرطة في صراعات إقليم الشرق الأوسط. لذلك، ربما استهدفت النخب التركية من وراء تكثيف تصريحاتها عن الترتيبات الأمنية في غزة ما بعد الحرب، توجيه رسالة إلى واشنطن والعواصم الأوروبية بأن دور بلادهم خلال المرحلة المقبلة لا غنى عنه.
3- إظهار الدعم لعناصر حركة حماس: على الرغم من التقارب بين أنقرة وحماس، ورفضها تسليم عناصر حماس المقيمة على أراضيها، فإن الموقف التركي الأوّلي من عملية طوفان الأقصى، الذي اعتمد خطاباً يتسم بالتوازن والحذر، لم يكن محل ترحيب من حماس، خاصة أن الخارجية التركية أدانت سقوط ضحايا مدنيين في مستوطنات غلاف غزة. وهو ما جعل حماس في توجهاتها لمعالجة الأزمة أكثر انفتاحاً على القاهرة والدوحة وطهران.
وهنا، يمكن تفسير تحرك تركيا لإظهار حرصها على المشاركة في الترتيبات الأمنية المقبلة في غزة، واستعدادها لأن تكون ضامناً للفلسطينيين، بأنه ربما يأتي في سياق محاولة إظهار الدعم لحركة حماس، وكذلك التأكيد على قدراتها على موازنة أية محاولات لتهميش دورها في القضية الفلسطينية التي تمثل ورقة رابحة للرئيس التركي لتحشيد الداخل التركي لصالحه، ناهيك عن كونها رافعة لتعزيز الصورة الذهنية له ولحزب العدالة والتنمية في الوعي الجمعي العربي والإسلامي.
4- تعزيز طموحاتها السياسية في الشرق الأوسط: يرجح اهتمام تركيا بالترتيبات الأمنية المستقبلية في قطاع غزة، باعتبارها تمثل أولوية لقوى إقليمية وعالمية، وبخاصة إسرائيل والولايات المتحدة، ودول المنطقة. وتعي تركيا أن مستقبل الأمن في القطاع بعد وقف الحرب عنصر حاسم في مستقبل الترتيبات الأمنية في الإقليم، وهو ما تجلى بشكل واضح في أطروحات متنوعة تتعلق بكيفية إدارة القطاع مستقبلاً، وعكس ذلك توجهاً ملحوظاً من جانب واشنطن والقوى الغربية وإسرائيل. ولذلك، فإن تركيا باتت تدرك أن الانخراط المبكر في الترتيبات الأمنية في غزة يمثل مفتاحاً رئيسياً لترسيخ حضورها في الإقليم، بالإضافة إلى تصاعد دورها ونفوذها السياسي والعسكري في المناطق الاستراتيجية في الشرق الأوسط.
بعبارة أخرى، يرتبط الطرح التركي حيال الترتيبات الأمنية في قطاع غزة، برغبتها في تعزيز دورها الجديد كوسيط للسلام أو ضامن محايد في الصراعات الإقليمية، وهو الدور الذي اكتسبته خلال الفترة الماضية، وحققت فيه نجاحات لافتة، كان أبرزها في قبرص عندما اضطلعت بدور الضامن، وفي صراع ناغورنوكارباخ حيث لعبت دوراً في تسوية الأزمة بين باكو ويريفان، بالإضافة إلى الوساطة في مبادرة الحبوب الأوكرانية. ولذلك، ربما رأت تركيا عبر طرح صيغة الضامن أو إبداء الاستعداد للمشاركة في أية ترتيبات أمنية في غزة، التأكيد على قدرتها على لعب دور محوري في جهود إنهاء الحرب من خلال عرض خدماتها كوسيط سلام بين إسرائيل وحماس.
تحول نوعي
ختاماً، يمكن القول إن توجه أنقرة لتكثيف اهتمامها بالمسألة الأمنية في غزة بعد انتهاء الحرب الحالية، يُعد تحولاً نوعياً في الاستراتيجية الأمنية لتركيا، ويأتي في سياق طموحاتها الساعية إلى التحول إلى دور الوسيط في السلام. وهنا، يمكن تفسير إبلاغ الرئيس أردوغان لنظيره الإيراني، في 9 نوفمبر الماضي، عشية مكالمة هاتفية بينهما،استعداد بلاده لتولي دور ضامن لحل الأزمة بين إسرائيل والفلسطينيين في قطاع غزة. كما أن الاهتمام بالترتيبات الأمنية يأتي في سياق محاولة تركيا معالجة التوترات التي وصلت للذروة مع تل أبيب وواشنطن وعدد من العواصم الأوروبية بعد تطورات أزمة غزة، واتهامها الغرب بالتواطؤ تجاه جرائم الإبادة في غزة.