تمكّنت السياسات الاقتصادية التركية الجديدة من احتواء التراجع الحاد في مؤشرات الاقتصاد، الأمر الذي دفع العديد من وكالات التصنيف الائتماني إلى رفع تصنيفها، من بينها وكالة “فيتش”، التي رفعت تصنيف تركيا من B إلى B+، بالإضافة إلى تعديل نظرتها المستقبلية من “مستقرة” إلى “إيجابية”. واتخذت “فيتش” هذه الخطوة في 13 مارس الجاري، وقد أرجعت ذلك إلى التغير الحادث في السياسات المالية التي اعتمدتها تركيا عشية فوز الرئيس أردوغان بولاية جديدة في الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي أُجريت في مايو 2023.
نقلة نوعية
شهد الاقتصاد التركي نقلة نوعية خلال الأشهر الأخيرة، كشف عنها استمرار الرؤية الإيجابية لوكالات التصنيف الائتماني حول أداء الاقتصاد التركي، فإلى جانب رفع وكالة “فيتش” التصنيف الائتماني للبلاد من بي إلى بي+ في مارس الجاري، كانت وكالة “استاندرد آند بورز” للتصنيف الائتماني في مطلع ديسمبر 2023 رفعت نظرتها المستقبلية للتصنيف الائتماني لتركيا من “مستقرة” إلى “إيجابية”.
وارتبط التقييم الإيجابي لوكالات التصنيف الائتماني في جانب منه بالصعود الحادث في المؤشرات الاقتصادية الأساسية لتركيا، وفي مقدمتها رفع التصنيف الائتماني لديون تركيا طويلة الأجل، فضلاً عن تحسن مستويات الاحتياطي، وخفض الودائع المحمية بالعملة الأجنبية دون زيادة الدولرة، وخفض عجز الحساب الجاري، وتخفيف توقعات التضخم.
على صعيد متصل، فإن التطور الحادث في مؤشرات الاقتصاد التركي ارتبط نسبياً بضبط نطاق المخاطر الجيوسياسية نتيجة التحسن الذي طرأ على العلاقات بين تركيا والقوى الغربية، وكان بارزاً هنا إعلان الاتحاد الأوروبي، في 4 فبراير 2024، على لسان الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية جوزيب بوريل، عن رغبته في إقامة علاقات أوثق وتعميق التعاون وحلّ الخلافات مع تركيا.
في المقابل، شهدت العلاقات التركية الأمريكية نقلة نوعية، كشف عنها موافقة تركيا على لحاق السويد بعضوية الناتو، وكذلك انعقاد اجتماعات الآلية الاستراتيجية التركية-الأمريكية في 7 و8 مارس الجاري في واشنطن، وناقشت الاجتماعات سبل وإجراءات تطوير العلاقات الاقتصادية، وتعزيز المبادلات التجارية التي تتجاوز 30 مليار دولار، الأمر الذي يعني أن الاقتصاد التركي قد يشهد خلال المرحلة المقبلة حالة أكبر من الاستقرار، نتيجة التحول اللافت في توجهات السياسة الخارجية، وقدرتها على معالجة الملفات الشائكة مع محيطها الإقليمي والدولي. وهو ما وفر بيئة خصبة أمام عودة الاستثمارات الأجنبية للسوق التركية. فعلى سبيل المثال، تعهدت الإمارات في يوليو 2023 بضخ استثمارات تُقدر بنحو 50 مليار دولار في قطاعي الدفاع والطاقة التركيين. كما زادت الاستثمارات السعودية خلال الآونة الأخيرة في السوق التركية لتصل بنهاية العام 2023 إلى ملياري دولار. ووفقاً لمكتب الاستثمار التابع للرئاسة التركية، يتوقع أن يصل إجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر في تركيا إلى ما بين 13 إلى 15 مليار دولار بنهاية العام 2024.
الاستدارة الإقليمية
الأرجح أن التحسن الحادث في علاقات تركيا الإقليمية ساهم في تشجيع الشركات متعددة الجنسية على إعادة النظر في خطتها الاستثمارية داخل السوق التركية، وظهر ذلك -على سبيل المثال- في تجاوب “إيلون ماسك” الرئيس التنفيذي لشركة تيسلا لصناعة السيارات الكهربائية مع دعوة أردوغان له في سبتمبر الماضي لافتتاح مصنع في تركيا، بالإضافة إلى دراسة شركة شيري الصينية لصناعة السيارات فتح مصنع في تركيا.
بالتوازي، فإن الميزانية التركية شهدت في الآونة الأخيرة انخفاض العجز المزدوج. كما يعود التعديل وفقاً لمؤسسات التصنيف الائتماني إلى إعادة هيكلة الكيانات المالية التركية، من خلال تعيين فريق اقتصادي جديد عشية الانتخابات الرئاسية الأخيرة، ضمت قيادات مالية ومصرفية تركية تحظى بمصداقية ورواج في الأسواق المالية العالمية، ناهيك عن إعلان الرئيس التركي العودة إلى السياسات المالية التقليدية، وبخاصة رفع معدلات الفائدة، وهو ما ظهر بالفعل في مطلع يناير 2024 عندما رفع البنك المركزي سعر الفائدة الرئيسي الأسبوع الماضي إلى 40% ليصل إلى 45% بنهاية الشهر نفسه.
الأرجح أن هذه التعديلات والتعيينات أثارت قدراً واسعاً من التفاؤل، وزادت من ثقة المستثمرين الأجانب في الاقتصاد التركي. وهنا، يمكن تفسير الارتفاع الملحوظ منذ فبراير الماضي في السندات والأسهم الدولارية، في حين انخفضت سندات مقايضة العجز الائتماني، وهي مقياس رئيسي لمخاطر الدولة، بأكثر من 250 نقطة أساس.
دلالات متنوعة
يعكس رفع التصنيف الائتماني لتركيا مجموعة من الدلالات الاقتصادية، يتمثل أولها في تراجع حدة المخاطر الاقتصادية في البلاد، حيث يتوقع زيادة نمو الناتج المحلي الإجمالي ليصل إلى 4% بنهاية العام 2024، كما يتوقع وفقاً للعديد من التقديرات الاقتصادية المحلية والدولية انخفاض معدل التضخم ليصل إلى 46% نهاية العام، بينما يتوقع أن يصل عجز الموازنة كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي إلى 6.4%، وعلى أن تصل معدلات البطالة إلى 10.3% بنهاية العام الجاري، وهو ما يثير طمأنة الأوساط الاقتصادية.
وفي الوقت نفسه، سجل الحساب الجاري تراجعاً في عام 2023، نتيجة العودة إلى السياسات التقليدية، حيث أظهرت بيانات ميزان المدفوعات التركي المنشورة في فبراير 2024، أن الفجوة في الحساب الجاري، وهو أوسع مقياس للتجارة والاستثمار، تقلصت إلى 45.2 مليار دولار للعام 2023، مقارنة بـ49.1 مليار دولار في عام 2022.
وينصرف ثانيها، إلى فاعلية السياسات الاقتصادية التي تبنتها تركيا عشية الانتخابات الرئاسية الأخيرة في دعم حالة الاستقرار الاقتصادي بشكل مستدام، إذ ساهم إعلان الحكومة التركية الجديدة التي تشكلت في يونيو 2023 عن العودة للسياسات المالية التقليدية، بالإضافة إلى تراجع تدخلات الرئيس التركي في رسم السياسات النقدية، وآليات عمل المصرف المركزي، وهو ما انعكس بصورة لافتة على وضعية الاقتصاد التركي في الخارج، وساهم في تصدير صورة نمطية مختلفة لدى الكثير من المؤسسات الدولية والمستثمرين الأجانب، حيث إن معظم التدابير التي اتخذتها الحكومة مؤخراً لدعم نمو الاقتصاد نالت تقدير قطاع معتبر من الأسواق الخارجية برغم تحفظاتها التي لا تزال قائمة.
وترتبط الدلالة الثالثة، بانعكاس العوامل السياسية على الاقتصاد التركي، ففي الوقت الذي تمكن فيه حزب العدالة والتنمية من الفوز بالانتخابات الرئاسية الأخيرة، والإمساك بمفاصل البرلمان التركي بعد الفوز بغالبية مقاعده في مايو 2023، بالإضافة إلى استعداد تركيا لانتخابات محلية مهمة نهاية مارس الماضي، والتي يتوقع بحسب العديد من استطلاعات الرأي فوز العدالة والتنمية بغالبية المحافظات، واستعادة سيطرته على البلديات الكبرى من المعارضة التي عادت لتوها للانقسام بعد تفكك تحالفها الانتخابي، وهو ما قد ينعس على تعزيز حالة استقرار الاقتصاد التركي خلال المرحلة المقبلة. وفي الوقت نفسه، قد يساهم التطور الحادث في علاقات تركيا الخارجية في تحسين مؤشرات الاقتصاد، ولا سيما في ظل إعلان واشنطن والقوى الأوروبية وعدد واسع من دول الإقليم عن الرغبة في دفع المبادلات التجارية مع تركيا خلال المرحلة المقبلة، وذلك بعد تصفير جانب من القضايا الخلافية وتفكيك بعض الملفات الشائكة.
معالجة الاختلال
ختاماً، يمكن القول إن الاقتصاد التركي في ضوء العودة إلى السياسات الاقتصادية التقليدية، وتوجه أنقرة نحو معالجة ضعف مناعتها الإقليمية والدولية، قد يشهد حالة من الاستقرار خلال المرحلة المقبلة، الأمر الذي ربما يساهم في معالجة الاختلالات المالية من جهة، ويزيد من ثقة المستثمرين الأجانب في السوق التركية من جهة أخرى.