تقارب مُتسارع:
دلالات المنحة “المليارية” الأمريكية إلى الأردن

تقارب مُتسارع:

دلالات المنحة “المليارية” الأمريكية إلى الأردن



مجموعة من الدوافع تقف وراء تقديم الولايات المتحدة الأمريكية، أكبر منحة مالية في تاريخ علاقتها مع الأردن، بوصفه حليفاً استراتيجياً لواشنطن في المنطقة؛ وهي المنحة التي عبرت عنها مذكرة التفاهم التي تمّ التوقيع عليها في منتصف سبتمبر الجاري في واشنطن. ضمن أهم هذه الدوافع، يأتي دعم برنامج التحديث الاقتصادي، والحد من تزايد المديونية الأردنية، فضلاً عن التأكيد على ضرورة التوسع في إطلاق الحريات، وتخفيف الضغوط الاقتصادية نتيجة تواجد عدد كبير من اللاجئين السوريين في الأردن، هذا بالإضافة إلى دعم المساهمة الأردنية في مواجهة التمدد الإيراني وخطر تنظيم داعش.

تأتي مذكرة التفاهم التي تم التوقيع عليها، في 16 سبتمبر الماضي، من جانب وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي، مع نظيره الأمريكي أنتوني بلينكن، في واشنطن، كـ”شاهدة على قوة العلاقة” بين البلدين، وذلك كما وُصِفت رسمياً. وبالرغم من التأكيد على أن هذه المنحة إنما جاءت لدعم الوظائف والطاقة والمياه؛ إلا أنها -في الوقت نفسه- تؤشر إلى مدى التقارب المتسارع في العلاقة بين الأردن والولايات المتحدة الأمريكية.

 واللافت أن التوقيع على “مذكرة التفاهم” قد تم بعد شهرين كاملين من الإعلان عنها في بيان أمريكي أردني مشترك، صدر عقب لقاء الرئيس الأمريكي جو بايدن والعاهل الأردني الملك عبدالله الثاني، في جدة، يوم 16 يوليو الماضي، على هامش القمة العربية الأمريكية، التي استضافتها السعودية؛ حيث أشار البيان -حينذاك- إلى أن مذكرة تفاهم جديدة مع الأردن سيجري توقيعها، تتعهد بموجبها واشنطن بتقديم مساعدات سنوية للأردن بما لا يقل عن 1.450 مليار دولار أمريكي، خلال الفترة الممتدة بين الأعوام 2023 – 2029، بما يعني نحو 10.15 مليارات دولار على مدار سبعة أعوام مقبلة.

حليف رئيسي

وفقاً للبيان، فإن المذكرة تعكس التزام الولايات المتحدة السياسي بدعم الأردن واستقراره، وتؤكد على دعم الولايات المتحدة للأردن كحليف رئيسي لها، وقوة للسلام في المنطقة. كما تستهدف تلبية احتياجات المملكة، ودعم برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي أعلنه الملك عبدالله الثاني.

وتُعتبر مذكرة التفاهم الجديدة صاحبة المدة الأطول، إذ تمتد إلى سبع سنوات، وهي الرابعة من نوعها بين الولايات المتحدة والأردن؛ حيث وقّع البلدان في وقت سابق مذكرتين كانت مدة كل منهما ثلاث سنوات على التوالي. أما مذكرة التفاهم الثالثة، فكانت التزاماً أمريكياً جديداً، أمده خمس سنوات بقيمة 6.375 مليارات دولار، أي 1.275 مليار دولار سنوياً، ابتداء من السنة المالية 2018 وانتهاءً بالعام المالي 2022، بزيادة سنوية قدرها 275 مليون دولار مقارنة بالسنوات السابقة.

ومن الملاحظ أن الرصيد السنوي من المساعدات المقدمة إلى الأردن قد ارتفع من 660 مليون دولار، إلى 1 مليار دولار مع كل “مذكرة تفاهم”، إلى أن وصل إلى 1.275 مليار دولار خلال السنوات الخمس السابقة؛ وسوف يصل إلى 1.450 مليار دولار في السنوات السبع القادمة.

وتؤكد مذكرات التفاهم تلك على الطبيعة الدائمة للالتزام الاستراتيجي للولايات المتحدة بدعم الأردن، الذي يبقى من بين المتلقين “الخمسة” الأوائل للمساعدات الأمريكية إلى جانب العراق وأفغانستان وإسرائيل ومصر؛ بل تضع المذكرة هذه المرة وللمرة الأولى الأردن قبل مصر في إجمالي قائمة المساعدات الأمريكية المقدمة لهاتين الدولتين، مما يدل على الأهمية التي تعيرها واشنطن لاستمرار الاستقرار في الأردن.

دوافع متعددة

وفقاً لوزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، فإن مذكرة التفاهم الجديدة تعكس المصلحة المشتركة في كون الشرق الأوسط أكثر أماناً، وهي تغطي أطول فترة زمنية من بين الاتفاقات الأربعة، بين الولايات المتحدة والأردن، كما تقدم مساعدات أكثر من كل سابقاتها. ومن ثمّ تأتي المنحة الأمريكية الأخيرة إلى الأردن، لتشير إلى تعدد الدوافع لتقديم الولايات المتحدة الأمريكية أكبر منحة مالية في تاريخ علاقتها معه، أهمها ما يلي:

1- دعم برنامج التحديث الاقتصادي للأردن: يُبرر بلينكن المنحة الأمريكية الجديدة بأنها تأتي لدعم الإصلاحات الرئيسية التي بدأتها الحكومة الأردنية، وبهدف التركيز على تحسين حياة الأردنيين، كالخدمات العامة الأساسية، والتعامل مع أزمة المياه التي تتفاقم بفعل التغير المناخي، وتوسيع الفرص الاقتصادية للأردنيين، خاصة المرأة.

ويُضيف بلينكن أن “هذا الاتفاق يقدم أكثر من مليار دولار من المساعدات كل عام، ولمدة سبعة أعوام، ويمكن للأردنيين أن يعتمدوا على دعم الولايات المتحدة وجعل هذه الإصلاحات واقعاً”. أما على الجانب الأردني، تُفيد عمان بأن مذكرة التفاهم الجديدة زادت الدعم الاقتصادي بنسبة 38 بالمائة، مقارنة بمذكرة التفاهم السابقة.

2- الحد من التزايد المستمر في مديونية الأردن: يساعد الدعم الأمريكي في تخفيف الضغوط المحلية الناجمة عن الإصلاحات الاقتصادية والمالية، التي نفذها الأردن بما يتماشى مع برنامج صندوق النقد الدولي. لكن، رغم ذلك، لا يزال الأردن يعتمد اعتماداً كبيراً على المعونة الخارجية، سواء الأمريكية أو غيرها، نتيجة أنه مُثقل بالديون الكبيرة.

وقد أظهرت إحصاءات وزارة المالية، التي نشرت على الموقع الإلكتروني للوزارة، في منتصف أغسطس الماضي، أن الدين العام للأردن وصل، نهاية مايو الماضي، إلى 19.4 مليار دولار، وأن الدين الخارجي قارب 21.4 مليار دولار. ويعني ذلك، بلغة الأرقام، أن ديون الأردن قد زادت بما نسبته 1.2 بالمائة مقارنة مع عام 2021؛ وأن مديونية الأردن قد ارتفعت لتصل إلى نحو 41 مليار دولار، وبذلك تصل نسبتها إلى 110.6 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، خلال الأشهر الخمسة الأولى من عام 2022.

ويرى البعض أن الرقم الحقيقي للمديونية يتجاوز هذا الرقم، من منظور أن الحكومة الأردنية وبالاتفاق مع صندوق النقد الدولي، لا تحتسب -ضمن دينها العام- ديونها من صندوق أموال الضمان الاجتماعي، والتي تبلغ 9 مليارات دولار، الأمر الذي يرفع المديونية لتتجاوز 50 مليار دولار.

3- تأكيد التوسع في إطلاق الحريات السياسية العامة: يبدو أن حصة من هذه المنحة الأمريكية سوف تُخصص للتوسع في إطلاق الحريات العامة، التي بدأت قبل نحو عام، باستدارة سياسية كبيرة تمثلت في تشجيع وإطلاق العمل الحزبي بعد سنوات من التضييق، والتأسيس لتشكيل أول حكومة برلمانية حزبية في المستقبل القريب، عبر تعديل قانوني الأحزاب والانتخاب.

وقد أكدت مساعدة وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى، باربرا ليف، في 16 سبتمبر الجاري، وفقاً لما ذكره الصحفي الأردني طارق ديواني في “إندبندنت عربية”، أن مذكرة التفاهم ناقشت بيئة حقوق الإنسان وحرية التعبير والحريات المدنية في الأردن، وأضافت: “دَعَوْنا إلى تعزيز مساحة الحريات المدنية وتوسيع نطاقها”. ويأتي هذا في إطار الحد مما يدور على أرض الواقع، خصوصاً خلال الأشهر القليلة الماضية، التي شهدت قفزة في تنفيذ اعتقالات بحق معارضين وناشطين سياسيين، رغم تأكيد الحكومة الأردنية أنها مُقبلة على مرحلة تاريخية من الانفتاح السياسي.

4- تخفيف الضغوط الناتجة عن اللاجئين السوريين: إلى جانب الحريات وحقوق الإنسان، تحاول الولايات المتحدة توفير الدعم للأردن، لقاء مواقفه المنفتحة تجاه اللاجئين السوريين، خصوصاً مع تراجع فرص العودة الطوعية لمعظمهم إلى بلادهم. وكان وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي، قد حذر، في 11 سبتمبر الماضي، خلال استقباله المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فيليبو غراندي، من “التدني اللافت في الدعم الدولي للاجئين في المنطقة”. ويستضيف الأردن نحو 650 ألف لاجئ سوري، مُسجلين لدى الأمم المتحدة، بينما تقدر عمان عدد الذين لجئوا إلى المملكة بنحو 1.3 مليون شخص.

في هذا الإطار، خصصت واشنطن مساعدات إضافية بقيمة 756 مليون دولار للاجئين السوريين، بعد تقارير محلية تحذر من أزمة كبيرة قد تواجههم، خلال الأشهر القليلة القادمة، تجعلهم غير قادرين على تأمين الحياة الكريمة، خاصةً مع الإشارات الأردنية المتكررة بأن تكلفة هؤلاء اللاجئين على أراضيه تتجاوز 12 مليار دولار سنوياً.

5- تعزيز الأمن والاستقرار الإقليمي: يتحدث وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، عن مستوى غير مسبوق من التمويل العسكري الوارد في مذكرة التفاهم الجديدة، كاشفاً عن نحو 400 مليون دولار سنوياً ستقدم إلى الجيش الأردني. والملاحظ أنه في كل مرة تقدم فيها واشنطن مساعدات إلى الأردن، تتبعها بالحديث عن دوره في تعزيز الأمن والاستقرار الإقليميين، بشكل يمكن معه القول إن السبب الأساسي للمساعدات هو قيام الأردن بأدوار عسكرية مهمة.

من هذه الأدوار، على الحدود مع سوريا، مواجهة التمدد الإيراني والتصدي لتهديدات تنظيم داعش. ومنها أيضاً في إطار العلاقة التكاملية مع القوات الأمريكية، التي تنتشر في “عشر” قواعد عسكرية على طول البلاد وعرضها، في وقت اختتمت فيه قبل أيام مناورات عسكرية سنوية تقام للمرة “العاشرة” في الأردن، وتعرف باسم “الأسد المتأهب”.

التزام استراتيجي

في هذا السياق، يمكن القول إن الدعم الأمريكي للأردن هو بمثابة “التزام استراتيجي” من الولايات المتحدة؛ حيث إنها كانت دوماً مساندةً له، خلال السنوات الماضية، بفضل تأييد الكونجرس ودعم وزارة الخارجية الأمريكية. ويبدو أن وضع الأردن الحالي، كحليف استراتيجي للولايات المتحدة، في منطقة تعج بالصراعات الإقليمية، خصوصاً في ظل الانشغال الروسي بالحرب في أوكرانيا، والفراغ الذي تحاول القوى الإقليمية -مثل إيران وتركيا- القيام بملئه؛ هذا الوضع سيظل مناط اهتمام الإدارة الأمريكية الحالية، كما الإدارة السابقة، إدارة دونالد ترامب؛ بل والإدارة القادمة أيضاً في حال تغير جو بايدن.