تبدي الولايات المتحدة الأمريكية اهتماماً خاصاً بتطوير التعاون الأمني مع الصومال، حيث أجرى رئيس مجلس الشعب الصومالي شيخ آدم محمد نور مباحثات مع وفد أمريكي رفيع المستوى برئاسة مساعدة وزير الخارجية الأمريكي للشئون الأفريقية مولي في، والمبعوث الخاص إلى القرن الأفريقي مايك هامر؛ في 17 فبراير الجاري، حول سُبل تعزيز العلاقات الثنائية بين الصومال والولايات المتحدة الأمريكية، في مجالات الأمن ومكافحة الإرهاب، وقضايا منطقة القرن الأفريقي.
وقبل ذلك بيومين، وقعت الصومال والولايات المتحدة الأمريكية اتفاقاً لتعزيز قدرات القوات المسلحة الصومالية في الحرب ضد حركة “شباب المجاهدين” الإرهابية، وهو الاتفاق الذي يقضي بزيادة الدعم الأمريكي للقوات الصومالية عموماً، ولواء القوات الخاصة “دنب”، الذي يُمثل “رأس الحربة” في الحرب الصومالية على الإرهاب.
وفضلاً عن التوتر الإقليمي الذي تسبب فيه الاتفاق المبدئي بين إثيوبيا وإقليم أرض الصومال، لتأسيس قاعدة عسكرية وميناء إثيوبي عند مداخل البحر الأحمر الجنوبية، يأتي الاتفاق في وقت تواجه فيه الصومال خطر تمدد العمليات الإرهابية من جانب حركة “الشباب”.
وكما يبدو، فإن ثمة عدداً من الدوافع ذات الأبعاد الجيوسياسية التي يستند إليها توقيع هذا الاتفاق، من أهمها: تنامي الاهتمام الأمريكي بالصومال، وتأكيد الوجود العسكري الأمريكي في هذا البلد العربي الأفريقي، مع تزايد الاهتمام الأمريكي بمنطقة القرن الأفريقي، في محاولة لمواجهة التمدد الروسي والصيني في المنطقة، وهي الأبعاد التي تأتي في إطار إعادة بلورة الاستراتيجية الأمريكية في أفريقيا عموماً.
أبعاد متشابكة
تتعدد الأبعاد التي يستند إليها الاتفاق الأمريكي-الصومالي بشأن التدريب العسكري الأمريكي للقوات المسلحة الصومالية، وذلك كما يلي:
1- تنامي الاهتمام الأمريكي بالصومال: يبدو أن هناك تحولاً في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الصومال في عهد الرئيس جو بايدن، عما كان عليه الحال في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي كان قد أصدر قراراً، في 4 ديسمبر 2020، يقضي بسحب القوات الأمريكية من الصومال. هذا التحول الذي تنتهجه إدارة بايدن يتبدى عبر اتفاق التدريب العسكري، خاصة لقوات لواء “دنب” الذي تم تشكيله من جانب الولايات المتحدة الأمريكية في عام 2014. والمُلاحظ أن اتفاق التدريب العسكري الأمريكي للقوات الصومالية يأتي في وقت تشهد فيه الصومال تصاعد وتيرة العمليات الإرهابية التي تقوم بها حركة “الشباب”، وفي الوقت نفسه يتوافق مع خطة الرئيس بايدن الذي استجاب لطلب وزارة الدفاع الأمريكية بإعادة إنشاء قاعدة عمليات في الصومال قبل أكثر من عشرين شهراً، أي منذ منتصف مايو 2022، وهي الخطة التي تقوم على تدشين “وجود عسكري أمريكي صغير ومستمر” في الصومال.
2- تأكيد الوجود العسكري في الصومال: لا تزال إدارة الرئيس بايدن تعمل على تعزيز الوجود العسكري الأمريكي في القارة الأفريقية عموماً، وفي منطقة القرن الأفريقي والصومال بوجه خاص. وقد قضى اتفاق التدريب العسكري الأمريكي للقوات الصومالية بإنشاء 5 قواعد عسكرية جديدة، في مشروع يسعى إلى تعزيز قدرات الجيش الصومالي، والأهم تأكيد الوجود العسكري الأمريكي في الصومال.
وتأتي هذه القواعد العسكرية الأمريكية، بناءً على الاتفاق، في توقيت يتزامن مع الانسحاب التدريجي لبعثة حفظ السلام التابعة للاتحاد الأفريقي في الصومال، بما يدل على ما تحظى به الصومال، في الرؤية الأمريكية، من أهمية جيوسياسية وأمنية، عند مداخل البحر الأحمر الجنوبية، فضلاً عن كونها مُنتجاً مُحتملاً للنفط والغاز، في ضوء الاكتشافات الجديدة في البلاد.
3- تقوية “دنب” لمواجهة “الشباب”: مارست تهديدات حركة “الشباب”، التي تُمثل أكبر فرع لتنظيم “القاعدة” في القارة الأفريقية، دوراً في قرار الإدارة الأمريكية بإعادة نشر بعض القوات في الصومال، والتحول من أسلوب “النشر بالتناوب” إلى تواجد عسكري أمريكي “أكثر ديمومة”، أخذاً بالتوصية التي قدمتها وزارة الدفاع الأمريكية في منتصف عام 2022.
ومن ثمّ يأتي الاتفاق الأمريكي-الصومالي في إطار دعم تسليح لواء “دنب”، لتعزيز قدرته على مواجهة حركة “الشباب”، خاصة أن هذا اللواء الذي تم تشكيله للاستفادة من نجاحات بعثة الاتحاد الأفريقي في الصومال، وتولت الولايات المتحدة الأمريكية تدريبه، يُعتبر “رأس الحربة” في مواجهة الجيش الصومالي للحركة وعملياتها الإرهابية، ولا سيما أنه قد نجح في تحرير 29 بلدة وقرية صومالية من الجماعة الإرهابية، خلال الفترة 2019-2020.
4- تعزيز النفوذ في القرن الأفريقي: تبدي الإدارة الأمريكية الحالية اهتماماً متزايداً بمنطقة القرن الأفريقي، إذ تسعى إلى محاولة الانخراط الفعال في شئون القارة الأفريقية، من خلال ممارسة دور في تسوية أزماتها المتفاقمة، ومنها جهود مكافحة حركات العنف والإرهاب، خاصة في شرق أفريقيا، وما تفرضه من تداعيات لها تأثير سلبي على المصالح الأمريكية.
فمنذ أن تم الإعلان عن الاستراتيجية الأمريكية الجديدة تجاه الدول الأفريقية جنوب الصحراء، من جانب وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، في عاصمة جنوب أفريقيا، بريتوريا، في 8 ديسمبر 2022، تحاول الولايات المتحدة الأمريكية تأكيد وجودها كقوة عظمى داخل القارة السمراء عموماً، وفي منطقة القرن الأفريقي على وجه الخصوص.
ويُمثل هذا التوجه الأمريكي تحولاً عن سياسة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الذي سمحت توجهاته بسحب القوات العسكرية الأمريكية من الصومال، ومن القرن الأفريقي، بتزايد النفوذ الصيني في المنطقة. فقد عملت بكين على ملء الفراغ الأمني في الصومال، عن طريق تقديم بعض المساعدات العسكرية للحكومة الصومالية، في مارس 2022، للمُساهمة في محاربة القوات الصومالية لحركة “الشباب”.
5- منافسة القوى الدولية الأخرى: تثير التحركات التي تقوم بها القوى الدولية الكبرى المُنافِسة للولايات المتحدة الأمريكية، خاصة الصين وروسيا، قلق الأولى من تراجع دورها في الصومال والقرن الأفريقي، التي تُمثل منطقة ذات أهمية جيوسياسية متزايدة، في ظل كافة الظروف والملابسات التي تمر بها منطقة المداخل الجنوبية للبحر الأحمر عند باب المندب.
ففي مواجهة تحركات روسيا للبحث عن موطئ قدم في شرق أفريقيا والبحر الأحمر، وفي مواجهة تزايد نفوذ الصين في القرن الأفريقي، بعد إقامة قاعدة عسكرية لها في جيبوتي؛ تحاول الولايات المتحدة الأمريكية تعزيز حضورها، والعمل على كسب المزيد من النفوذ، في شرق أفريقيا والقرن الأفريقي، وفي الصومال، في مواجهة التمدد الذي تحاوله روسيا والصين.
مُقاربة استراتيجية
في هذا السياق، يُمكن القول إن التوافق الأمريكي-الصومالي، وتوقيع الاتفاق بشأن التدريب العسكري الأمريكي للقوات المسحة الصومالية، وخصوصاً لواء “دنب”، يأتي في إطار “مُقاربة استراتيجية” لإعادة تأكيد التواجد الأمريكي في الصومال، وفي منطقة القرن الأفريقي، في محاولة من جانب واشنطن لمواجهة التمدد الروسي والصيني، في شرق أفريقيا وجنوب البحر الأحمر.
ومن المرجح، خلال الفترة المقبلة، أن يتزايد النشاط الأمريكي على ساحة القرن الأفريقي، في محاولة لإعادة بناء نفوذ واشنطن، خاصة بعدما خسرت زمام المبادرة لصالح منافسيها الرئيسيين في أفريقيا (الصين وروسيا). إذ تستند المحاولة الأمريكية إلى رغبة واشنطن في إعادة هندسة علاقاتها مع دول القرن الأفريقي، وفي مقدمتها الصومال، عبر تكثيف تواجدها العسكري الذي يأتي تحت عنوان “محاربة الإرهاب”.