يأتي الإعلان عن عقد قمة روسية-عربية في مراكش خلال ديسمبر المقبل في توقيت هام، حيث تستمر الحرب الروسية-الأوكرانية وصراع النفوذ بين روسيا والصين من جانب، والولايات المتحدة والدول الأوروبية من جانب آخر، بينما تواجه المنطقة العربية حالة من عدم الاستقرار بسبب تصاعد العديد من الأزمات، وعلى رأسها التصعيد العسكري بين إسرائيل وحركة حماس، حيث ألقت العديد من القوى العربية باللوم على السياسة الأمريكية الداعمة لإسرائيل. ولذلك يشير إعلان موسكو عن عقد هذه القمة إلى العديد من الدلالات، ومن أهمها: تجديد الدعوة لنظام عالمي جديد (متعدد الأقطاب)، وتعزيز التقارب السياسي مع المغرب، وإبداء موقف محايد تجاه الصراع الجزائري-المغربي، وتحييد الدور الفرنسي في المنطقة.
في 11 أكتوبر الجاري، أعلن وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، عن عقد القمة الروسية-العربية في مراكش في ديسمبر القادم. وهو ما يثير التساؤلات حول دلالات عقد هذه القمة في هذا التوقيت.
دلالات عديدة
ثمة دلالات عديدة لعقد هذه القمة من حيث الزمان والمكان والسياق العام، والتي يمكن إيجازها فيما يلي:
1- تجديد الدعوة الروسية لنظام عالمي جديد، حيث تأتي هذه القمة بعد مضي أشهر من انعقاد القمة الروسية-الأفريقية الثانية في يوليو الماضي، ومن ثم يبدو أن موسكو تسعى إلى استثمار حالة الاستياء العربي تجاه السياسة الأمريكية في المنطقة. وقد كشفت العديد من الأحداث والتطورات عن حالة الإحباط العربي على نحو أدى إلى اتجاه الرياض نحو تعزيز علاقاتها مع بكين، حيث اتجهت الأخيرة إلى استثمار هذه الأجواء في القيام بدور الوسيط بين طهران والرياض والذي أفضى إلى توقيع البلدين على اتفاق سلام لاحتواء التوترات بينهما. وبالمثل، فإن موسكو تراقب هذه التطورات وترغب في توسيع دورها السياسي في المنطقة، وخاصة في ظل التفاهمات الروسية-الصينية لاحتواء النفوذ الأمريكي في المنطقة، ودعوة القوتين إلى نظام دولي جديد متعدد الأقطاب.
2- تعزيز التقارب السياسي الروسي مع المغرب، ويتضح ذلك من اختيار مدينة مراكش لعقد القمة، حيث يبدو أن موسكو أرادت أن تمنح المغرب ميزة استراتيجية باعتباره المكان الملائم لعقد هذه القمة، وهو ما يعزز من فرص التقارب بين الدولتين. وقد عبرت موسكو في أكثر من مناسبة عن رغبتها في تعزيز التقارب مع الرباط، وأعلنت عزمها إقامة منطقة تجارة حرة، وهو ما تفهمته الرباط التي حافظت على موقف محايد تجاه الحرب الروسية-الأوكرانية، عند التصويت داخل الأمم المتحدة على قرارات تدين العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.
3- إبداء موقف محايد تجاه الصراع المغربي-الجزائري، حيث أشارت الكثير من التوقعات إلى عزم موسكو عقد هذه القمة في الجزائر باعتبارها تمثل الحليف الاستراتيحي لموسكو في منطقة المغرب العربي، على نحو ما كشفته التحركات الروسية والزيارات المتبادلة بين موسكو والجزائر والمناورات العسكرية التي تنظم بين البلدين في الجزائر بصفة دورية، ناهيك عن أن الجزائر تعتبر من أهم موردي السلاح الروسي. ويبدو أن موسكو أرادت أن تُظهر موقفاً محايداً تجاه الصراع الجزائري-المغربي باختيار مراكش باعتبارها المكان الملائم لعقد هذه القمة، وقد أظهرت ذلك بوضوح عندما رفضت تمثيل جبهة البوليساريو في القمة الروسية-الأفريقية الثانية التي عقدت في سان بطرسبرغ في يوليو الماضي.
4– تحييد الدور الفرنسي في منطقة المغرب العربي، حيث تأتي هذه التحركات الروسية باتجاه المغرب في الوقت الذي تشهد فيه العلاقات الفرنسية مع المغرب والجزائر حالة من التوتر المتنامي، وقد ظهر ذلك جلياً في رفض المغرب قبول المساعدات من فرنسا بعد كارثة زلزال الأحواز، والتحفظات التي تبديها مراكش على سياسة باريس تجاه ملف الصحراء. وتتهم الأولى الثانية بغموض موقفها، وتطلب منها سياسة واضحة محددة تجاه هذا الملف. وفي الوقت نفسه، ثمة توجه جزائري متنامٍ معارض للسياسة الفرنسية وخاصة في منطقة الساحل الأفريقي، وقد رفضت الجزائر السماح للقوات الفرنسية باستخدام مجالها الجوي لتوجيه ضربة عسكرية في النيجر، ومن ثم تجد روسيا أن المناخ السياسي في منطقة المغرب يبدو ملائماً لتعزيز حضورها وتوسيع نفوذها في المنطقة.
انعكاسات محتملة
من المتوقع أن تُلقي هذه التحركات الروسية لتعزيز التقارب مع الدول العربية بظلالها على المنطقة، وذلك على النحو التالي:
1- توسع النفوذ الروسي في المنطقة العربية، وخاصة في منطقة المغرب العربي، ويساعد على ذلك توسع النفوذ الروسي في منطقة الساحل الأفريقي، لذلك يرى مراقبون أن موسكو تستفيد من تراجع دور بعض القوى الغربية في توسيع دورها في الوساطة في حل أزمات المنطقة. فعلى سبيل المثال، يمكن أن تلعب موسكو دور الوسيط لخفض الصراع الجزائري-المغربي، وخاصة في ظل غياب الثقة الجزائرية في الدور الأمريكي. وبرغم التحركات الأمريكية المتنامية لاحتواء الجزائر، والتي تجسدت خلال أكتوبر الجاري في تنظيم الخارجية الأمريكية ملتقى الحوار الاستراتيجي مع الجزائر، لكن الجزائر لا تزال تنظر بعين الشك والريبة تجاه واشنطن، في الوقت الذي تتمتع فيه موسكو بعلاقات جيدة مع الجزائر، وهذا يعزز من فرص الدبلوماسية الروسية لإقناع الطرفين باستعادة العلاقات وتبادل السفراء، وتعزيز التعاون الاقتصادي، والجلوس على مائدة التفاوض، وخاصة أن المغرب أبدى في أكثر من مناسبة رغبته في حل الخلافات مع الجزائر من خلال وسائل سياسية وسلمية.
2– انخراط سياسي روسي في تفاعلات الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، إذ كشفت التصريحات الروسية عن هذه الرغبة بوضوح بعد تصاعد الحرب الإسرائيلية الجارية في قطاع غزة، ودعت موسكو مجلس الأمن إلى عقد جلسة طارئة لاتخاذ قرار بشأن الأوضاع في غزة، كما أعربت موسكو عن استعدادها لأن تلعب دوراً سياسياً في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. ويبدو أن الدور الروسي يلقى قبولاً لدى العديد من القادة العرب، وخاصة في ظل تراجع مستوى الثقة في الدور الذي يمكن أن تلعبه واشنطن لخفض التوتر والتأثير على السياسة الإسرائيلية.
3- زيادة حدة الاستقطابات في المنطقة العربية، حيث يؤدي تصاعد التنافس بين المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة والتحالف الروسي-الصيني في المنطقة إلى زيادة حدة الاستقطابات بين قوى مؤيدة لواشنطن وقوى مؤيدة لروسيا، وإن كانت هذه القوى العربية هي المستفيد الأكبر من هذا التنافس الذي يعزز من فرص مكاسبها السياسية. وبالنسبة لموسكو، فمن المتوقع أن تعمل على دعم الموقف العربي والفلسطيني في مواجهة الانتهاكات الإسرائيلية والدعم الأمريكي والغربي، وذلك على اعتبار أن الروس والعرب يقفون في خندق واحد في مواجهة السياسة الأمريكية الداعمة لأوكرانيا وإسرائيل، وهو الأمر الذي يمكن موسكو من استقطاب القوى العربية اليائسة من السياسة الأمريكية، وبالتالي يعزز من فرص موسكو لبناء شبكة من التحالفات في مواجهة السياسة الأمريكية على الصعيدين العالمي والإقليمي.
توسيع الخيارات
وفي المجمل، تأتي القمة الروسية-العربية المزمع عقدها في المغرب في ديسمبر المقبل بعد أشهر قليلة من عقد القمة الروسية-الأفريقية في سان بطرسبرغ في يوليو الماضي، وتشير إلى اهتمام روسي باستقطاب حلفاء جدد في وقت تتصاعد فيه الانتقادات للسياسة الأمريكية والغربية سواء على الصعيد الأفريقي أو العربي، وتحاول موسكو أن تقدم بدائل لحل الأزمات الأفريقية والعربية، باعتبارها تقف مع هذه الدول في خندق واحد في مواجهة الضغوط الأمريكية والانحياز الأمريكي لبعض الدول على حساب الأخرى. ويبدو أن استمرار الحرب الروسية-الأوكرانية يدفعها في اتجاه توسيع نطاق تحركاتها وتحالفاتها بشكل يعزز من مقاومتها للضغوط الغربية.