رغم توصل إيران والولايات المتحدة الأمريكية إلى صفقة لتبادل السجناء، تم تنفيذها في 18 سبتمبر الجاري، إلا أن ذلك لم يؤدِّ إلى تراجع حدة التوتر في العلاقات بين الدولتين، بعد أن أشارت اتجاهات عديدة إلى أن هذه الصفقة ربما تفرض تداعيات إيجابية يمكن أن يكون لها دور في تعزيز فرص الوصول إلى اتفاق نووي جديد بين الطرفين خلال الفترة المتبقية من ولاية الرئيس الأمريكي جو بايدن.
فعلى العكس من ذلك، تصاعدت حدة التوتر بين الطرفين مجدداً، بعد أن قامت إيران بإطلاق قمر صناعي عسكري جديد، في 27 سبتمبر الجاري، حيث أعلن وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات الإيراني عيسى زارع بور أن الحرس الثوري نجح في وضع القمر الصناعي للاستطلاع التصويري “نور 3” بنجاح في مدار يبعد عن الأرض 450 كم مع حامل الأقمار الصناعية الإيرانية “قاصد”. وأشار قائد القوة الجوفضائية أمير علي حاجي زاده إلى أن إيران ستعلن عن خطوتين أخريين في هذا السياق خلال الفترة المتبقية من العام الإيراني الحالي الذي سينتهي في 20 مارس القادم.
أسباب عديدة
يمكن تفسير إقدام إيران على اتخاذ هذه الخطوة التصعيدية الجديدة في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:
1- وضع حد للتهدئة مع واشنطن: تعكس هذه الخطوةُ السياسةَ المزدوجة التي تتبناها إيران باستمرار في إدارة علاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية. إذ إنها دائماً ما تسعى عقب إبرام صفقة محدودة، مثل تبادل السجناء، إلى توجيه رسائل أكثر تشدداً تفيد بأن مثل هذه الصفقات لا تعكس تغييراً في سياستها تجاه الولايات المتحدة الأمريكية. وقد بدا ذلك جلياً في فترات مختلفة، فعقب الوصول إلى الاتفاق النووي في 14 يوليو 2015، أعلن المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي بعد ذلك بأربعة أيام أن إيران سوف تواصل سياستها في المنطقة ودعمها لحلفائها الإقليميين، في إشارة إلى أن الصفقة مع واشنطن لن تؤثر على الدور الإقليمي الإيراني.
2- الاستعداد لرفع الحظر الأممي عن برنامج الصواريخ: تستعد إيران حالياً للاستحقاق المهم الذي سوف ينفذ في 18 أكتوبر القادم، والخاص برفع الحظر الأممي المفروض على الأنشطة المرتبطة بتطوير الصواريخ الباليستية، وذلك ضمن الامتيازات التي يمنحها الاتفاق النووي لإيران. ورغم أن الأخيرة لم تلتزم في الأساس بهذا الحظر، مستندة إلى أن صواريخها الباليستية ليست مخصصة لحمل رؤوس نووية، وهي المواصفات التي حددها قرار مجلس الأمن رقم 2231، إلا أن ذلك لا ينفي أن رفع الحظر وتفعيل ما يسمى بـ”بند الغروب” في الاتفاق النووي يمثل -في رؤية إيران- “إنجازاً” في مواجهة الضغوط والعقوبات الأمريكية والغربية، ربما يدفع إيران إلى تبني سياسة مختلفة فيما يتعلق بمستوى الدعم العسكري الذي تقدمه لروسيا في إدارة عملياتها العسكرية في أوكرانيا، وهو أحد الخلافات الجديدة التي أُضيفت إلى قائمة الخلافات العالقة مع الدول الغربية عموماً، والولايات المتحدة الأمريكية على سبيل الخصوص.
3- الرد على السياسة الأوروبية الجديدة: لا ينفصل إقدام إيران على إطلاق القمر الصناعي الجديد عن التصعيد المتواصل مع الدول الأوروبية، ولا سيما بريطانيا وفرنسا وألمانيا، التي بدأت في تبني سياسة مختلفة تجاه إيران، خاصة عقب اتهامها بتقديم دعم عسكري لروسيا في الحرب الأوكرانية، ممثل في الطائرات من دون طيار التي ترى هذه الدول أن روسيا تستخدمها في تدمير البنية التحتية الأوكرانية، وربما تخشى من أن إيران قد تستغل رفع الحظر الأممي القادم عن الأنشطة المرتبطة ببرنامج الصواريخ الباليستية، من أجل زيادة مستوى الدعم الذي تقدمه لروسيا ليشمل الصواريخ إلى جانب المسيرات.
من هنا، أعلنت كل من بريطانيا وفرنسا وألمانيا، في 14 سبتمبر الجاري، أنها سوف تمدد العمل بالعقوبات المرتبطة بالبرنامج النووي الإيراني، والتي كان من المزمع رفعها في 18 أكتوبر القادم، في إشارة إلى العقوبات الخاصة بالصواريخ الباليستية.
وفي هذا السياق، أصدرت المفوضية الأوروبية بياناً جاء فيه أن مسئول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل تلقى رسالة من الدول الثلاث أبلغ فيها “قلقها المتزايد من عدم وفاء إيران بالتزاماتها النووية، ونيتها عدم اتخاذ خطوات تتعلق برفع عقوبات ضمن الاتفاق النووي في اليوم الذي يعرف بـاليوم الانتقالي في 18 أكتوبر المقبل”.
وقد أثارت هذه الخطوة رد فعل متشدداً من جانب إيران، التي لم تكتفِ في اليوم التالي بتأكيد أن استمرار العقوبات في مرحلة ما بعد 18 أكتوبر القادم سوف يكون عملاً غير قانوني، وسيكون له تأثير على مفاوضات رفع العقوبات، وإنما اتجهت إلى تحدي القرار عبر إطلاق القمر الصناعي الجديد.
4- إدارة المواجهة مع إسرائيل: كان لافتاً أن إطلاق القمر الصناعي الجديد جاء بعد تصاعد حدة التهديدات المتبادلة بين إيران وإسرائيل، والتي بدأها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خلال كلمته على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في 22 سبتمبر الجاري، حيث قال: “طالما أنا رئيس حكومة إسرائيل، سأبذل كل ما في قدرتي لأمنع إيران من التزوّد بسلاح نووي”، مضيفاً: “قبل كل شيء، يجب مواجهة إيران بتهديد نووي ذي مصداقية”، قبل أن يسارع مكتبه إلى تعديل التصريحات وتأكيد وقوع “خطأ في القراءة”، وأن المقصود “تهديد عسكري” وليس “تهديداً نووياً”.
هنا، فإن إيران لم تكتفِ بتأكيد أنها تمتلك “صواريخ ضاربة لإسرائيل”، معتبرة أن “إسرائيل هي الهدف الأول لهذه الصواريخ”، وإنما أعلنت إطلاق القمر الصناعي الجديد، الذي قال قائد الحرس الثوري حسين سلامي إنه “سيوفر صوراً أكثر دقة من سابقيه مما سيمكن الحرس الثوري من تلبية احتياجاته الاستخباراتية”، في إشارة إلى أن مهمة القمر الصناعي تتمثل في مراقبة القواعد الأمريكية في المنطقة والتجسس على إسرائيل.
مسارات متوازية
في ضوء ذلك، لا يمكن استبعاد أن تتجه إيران إلى اتخاذ مزيد من الخطوات التصعيدية خلال المرحلة القادمة، ليس فقط بسبب اقتراب موعد رفع الحظر الأممي عن الأنشطة الخاصة بتطوير برنامج الصواريخ الباليستية، وإنما أيضاً بسبب اتجاه الدول الأوروبية إلى إجراء تغيير في سياستها بإبداء مزيد من التشدد إزاء هذه الخطوات التصعيدية الإيرانية.
لكن ذلك لا ينفي في الوقت ذاته أن طهران سوف تستمر في فتح قنوات تواصل مع واشنطن، على نحو يبدو جلياً في التصريحات المتكررة التي يُدلي بها وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، ويشير فيها إلى وجود مبادرات مختلفة لتسوية الخلافات بين الطرفين، وكان آخرها المبادرة الجديدة التي طرحتها اليابان، وتحاول من خلالها استئناف المفاوضات الخاصة بالاتفاق النووي.