يؤرخ البعض لاندلاع الانتفاضات العربية فى العقد الماضى، بما حدث فى تونس فى 17 ديسمبر 2010، حينما أشعل الشاب محمد البوعزيزى النار فى نفسه يأسًا واحتجاجًا، لكن آخرين يعتقدون أن تدشين عقد الانتفاضات العربية حدث فى هذا البلد نفسه فى 14 يناير 2011، حين هرب الرئيس التونسى الأسبق زين العابدين بن على من البلاد، ليتركها على حافة بركان من الغضب والاضطراب والآمال الكبيرة.
لقد رأى كثيرون أن سقوط بن على إعلان واضح لنجاح «الثورة»، وبداية لانتقال ديمقراطى يأخذ هذا البلد الشقيق إلى مسار جديد من التنمية والاستقرار والحرية على أنقاض الاستبداد وشيوع الفساد فى الحكم، وقد كان ذلك عاملًا مشجعًا ومُلهمًا فى آن واحد لعديد الانتفاضات التى اندلعت لاحقًا فى بلدان عربية أخرى.
فلم يمضِ وقت كبير على تسجيل هذا «الانتصار» الافتتاحى لعقد الانتفاضات، حتى وقعت انتفاضات أخرى فى 25 يناير 2011 فى مصر، وفى اليمن 11 فبراير، ثم ليبيا 17 فبراير، قبل أن تحط رحالها فى سوريا فى 15 مارس من العام نفسه.
وعلى عكس الاحتفاء الغربى الذى واكب اندلاع الانتفاضات قبل 12 سنة، بدأت المنظمات المعنية ومراكز البحوث المتخصصة فى الانتباه إلى فداحة الخسائر الاقتصادية والتكاليف الاجتماعية للاحتجاجات السياسية فى دول التغيير العربية، كما باتت أكثر صراحة فى الإقرار بها.
ورغم فداحة التكاليف الاقتصادية للانتفاضات، فإن التكاليف السياسية والأمنية كانت أكبر، فى ظل انهيار الدولة الوطنية فى أكثر من موضع، وتحوُّل عدد من الدول العربية إلى ملاعب مفتوحة لفعل الفاعلين الإقليميين والدوليين، فضلًا عن تحوُّل فكرة «الربيع العربى» نفسها إلى «شتاء أصولى» فى أكثر من موضع بسبب صعود بعض تيارات الإسلام السياسى إلى مراكز الحكم على أسِنّة رماح الاحتجاج لتفعيل أجندة سياسية بدت ظلامية ومُكلفة وكارثية فى عديد الحالات.
بعد 12 عامًا من وقوعها، سيجد مؤيدو «الثورات» و«التغيير» ذرائع لدحض تلك النتائج؛ وسيقول هؤلاء: «إن الثورات لم تكتمل، وتم إجهاضها بواسطة الثورات المضادة، وإن تلك الخسائر سببها الفساد والاستبداد والإدارة الفاشلة والتدخلات الخارجية المُغرضة». وسيرد معارضو «الثورات» والراغبون فى عودة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل 12 سنة بقولهم: «ليست ثورات ولا انتفاضات، لم تكن سوى مؤامرات، وخسائرها أكبر مما يظهر حتى الآن».
لكن الباحثين الموضوعيين لن يقللوا من خطورة الأسباب التى ساعدت على اشتعال الانتفاضات، ولن يعفوا طبقات الحكم التى اشتعلت الانتفاضات ضدها من المسؤولية، وفى الوقت نفسه سيؤكدون أن تلك الخسائر حقيقة واقعة، وأن الاختلاف حول حجمها، أو المتسبب فيها، لا ينفى خطورتها، وأهمية إيجاد السبل المناسبة لإيقافها، وتعويضها، وصولًا إلى تحقيق التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية لضمان عدم تكرار الوقائع المريرة مرة أخرى فى بلدان المنطقة.
ستكون دول التغيير العربية التى ضربتها الانتفاضات، أو أشرفت على ضربها، معنية بصناعة حالة سياسية واجتماعية غير مواتية لبلورة الاحتجاج والتمرد، ولن تكون تلك مهمة أمنية صرفة، بل ستحتاج الكثير من العمل على صُعُد السياسة والاقتصاد والثقافة والإعلام.
وستظل القدرة على تحقيق درجة مناسبة من الرشد والنجاعة فى الإدارة الاقتصادية للموارد المتاحة- بالشكل الذى يحقق إنجازًا اقتصاديًّا ملموسًا، يتم توزيع أثره بقدر مناسب من العدالة، بحيث يعالج الأبعاد الاجتماعية، ويُبطل دعاوَى المظلومية- مسألة ضرورية.
كما أنه من الضرورى أن تتضافر الجهود لإيجاد بيئة ضامنة لقدر مناسب من الحريات وحقوق الإنسان، بشكل يُبقى المجال العام طبيعيًّا، ويترك الفرصة للجماعات والقوى السياسية والاجتماعية للتعبير عن مواقفها ومصالحها، ويخلق حالة سياسية، تضمن التدافع والتنافس، ضمن إطار القانون، وتحت سقف الدستور، وبموازاة درجة مناسبة من الحوكمة، التى تتضمن تفعيل المساءلة وإخضاع الأداء العمومى للتقييم.
لقد فهمنا من عقد الانتفاضات أن أعتى الإجراءات التقييدية لا يصمد أمام رغبة التغيير والإصلاح المُلِحّة، وأنه عند وجود تلك الرغبة فى التغيير بموازاة انسداد الطرق لتحقيقها قد تندلع الاحتجاجات، التى لا يمكن أن تنتج تحولًا سياسيًّا ناجحًا إلا فى ظل توافر عدد من العناصر المهمة، التى كان غيابها سببًا فى اندلاع الانتفاضات.
إذا كانت الحاجة ماسّة إلى التغيير فى مجتمع ما لمواجهة إخفاقات ومظالم واختناقات خطيرة، فإن السلطة السياسية قد تكون قادرة على إنجاز المطلوب، الذى سيتحقق عبر إشراك الجميع فى معالجة التحديات، وفق أسس تتحلى بالرشد والنجاعة واحترام الحريات وحقوق الإنسان.
نقلا عن المصري اليوم