لبنان محكوم بمواجهة تحديات أكبر من أزماته السياسية والمالية والاقتصادية والاجتماعية، وأخطر ما يتحكم بالمواجهة هو اللعب خارج الدستور وسط التدرج في الأزمات صعوداً وفي البحث عن الحلول نزولاً. نحن ننتقل من أزمة حكومة إلى أزمة حكم فإلى أزمة نظام وصولاً إلى أزمة وجود، والحلول التي بدأت باتفاق الطائف كتسوية أوقفت الحرب ونصت على أن لبنان “وطن نهائي لجميع أبنائه”، وكان الطموح كبيراً إلى تطوير صيغة الطائف نحو دولة مدنية تتجاوز الطائفية وتنهي الطائفية السياسية، اصطدمت بصعود العصبيات المذهبية فوق الطائفية وصار أقصى المطلوب هو تجاوز العجز عن تأليف حكومة وانتخاب رئيس للجمهورية.
وفي لبنان اليوم خوف مزدوج ورهانات متضاربة، طرف خائف من سقوط الطائف، وآخر مذعور من تطبيقه. طرف يراهن على “مؤتمر تأسيسي”، وآخر على “مؤتمر دولي”. والكل يعرف المعادلة: لا مهرب من الطائف الذي صار دستوراً ولا مجال لتطبيقه. وهو جاء أصلاً بقوة اللاعبين في الخارج الذين لم تعد الحرب تخدم مصالحهم، وضعف اللاعبين في الداخل وتعبهم من الحرب. ولا فرصة لتكرار ذلك. والدعوات إلى مؤتمر تأسيسي ليست ضماناً للتفاهم على صيغة أفضل من الطائف بل لصيغة أسوأ تعكس موازين القوى الجديدة وتلبي طموحات الطرف الأقوى حالياً بالديموغرافيا والسلاح. والدعوات إلى مؤتمر دولي لإنقاذ لبنان وضمان “حياده” لن تجد آذاناً صاغية لدى القوى الدولية المشغولة بأمور كثيرة، بينها حرب أوكرانيا، التي ملت من تحايلنا على مطالبتها لنا بإجراء إصلاحات ضرورية لإنقاذ البلد وتأليف حكومة وانتخاب رئيس.
ومن المفارقات أصلاً توقع التطبيق الكامل للطائف على أيدي الطرف القوي المهيمن الذي يعتبر أن الطائف لا يلائم حجمه الديموغرافي ودوره، وحليف رئيس الجمهورية الجنرال ميشال عون الذي كان ضد الطائف كرئيس لحكومة عسكرية وقائد للجيش وخاض حروباً لمنع الوصول إليه ثم تطبيقه.
والسؤال اليوم هو: ماذا بعد خريف العهد الرئاسي للجنرال عون الذي ينتهي في 31 أكتوبر (تشرين الأول) المقبل؟ والجواب جاء في صورتين: صورة لبنان المأزوم الذي يبدو كأنه وصل إلى “خريف” الطائف والجمهورية، لا فقط خريف العهد الذي قال بصراحة إننا ذاهبون إلى “جهنم”، وصورة المقاومة الإسلامية التي احتفل “حزب الله” بولادتها على أيدي الحرس الثوري الإيراني وبلوغها “الـ40 ربيعاً”. والرمز وراء التسمية واضح: سنوات المقاومة الإسلامية “ربيع” وسنوات الطائف والجمهورية “خريف”. الثابت هو “حزب الله”، والمتغير هو لبنان.
“مستقبل المنطقة لمحور المقاومة بقيادة إيران”، كما يقول حسن نصر الله، و”المقاومة صنعت مكانة لبنان وتحمي دولته”، بحسب نائبه نعيم قاسم، و”لولا المقاومة لكنا عبيداً لأميركا وإسرائيل” في رأي النائب محمد رعد، رئيس كتلة “الوفاء للمقاومة”، وهذه بالطبع مبالغات على الطريقة الإيرانية التقليدية.
صحيح أن المقاومة الإسلامية حررت الجنوب اللبناني من الاحتلال الإسرائيلي، لكن الصحيح أيضاً أنها جعلت لبنان كله منصة صاروخية لما سماه قائد الحرس الثوري الجنرال حسين سلامي “ردع إسرائيل عن شن عمل عسكري ضد إيران”. والصحيح أيضاً وأيضاً أن سلاح “حزب الله” لا يحمي الدولة بمقدار ما يصعب قيام دولة بالمعنى الحقيقي في وجوده وبقاء قراره خارج الشرعية، فضلاً عن أن مكانة لبنان جاءت من “القوة الناعمة” التي لديه. وإذا كان يعاني اليوم مشكلة مع الأشقاء العرب والأصدقاء الدوليين، فإن السبب هو سياسة “حزب الله” وما يقوم به في أكثر من بلد عربي. وليس “خريف” الطائف والجمهورية سوى فصل تتعاقب بعده فصول مختلفة. كذلك الأمر بعد “ربيع” المقاومة الإسلامية.
نقلا عن اندبندنت عربية