قد يبدو الأمر للوهلة الأولى سهلا أو ممكنا أو فى متناول اليد، إلا أن تعقيدات النظام الدولى وتشابك التفاعلات الدولية وتداخل المصالح القومية واحتمالات العناد الوطنى تجعل من مسألة إدارة الصراع ناهينا عن حله عسيرة وبعيدة المنال، ونظرا للتكلفة الإنسانية والمادية المرتفعة والمرهقة للصراعات الدولية وما ينجم عنها من تغيير فى موازين القوى وهو ما قد يدفع إلى عدم الاستقرار الدولى فقد كرس العلماء والخبراء جهدا ووقتا وأموالا طائلة للبحث فى عملية إدارة وحل الصراعات الدولية على أمل احتوائها ووقف تصعيدها إلى أزمات وحروب مدمرة تقضى على الأخضر واليابس فى عالم تبلغ مديونيته ما يناهز ثلاثة أمثال موارده وأكثر، وتوصل هؤلاء إلى نظريات وآليات عليهم توظيفها للحد من الصراعات واحتواء القائم فيها، وإن كانت بعض تلك النتائج تصطدم بالجوانب السيكولوجية للشعوب خصوصا صناع القرار والذين قد يكون من العسير التنبؤ بسلوكهم وكبح جماحهم.
ومما دفع بالعلماء والباحثين إلى شحذ الهمم نحو دراسة أبعاد الصراعات بقصد احتوائها ووقف تصعيدها، ما أسفرت عنه الصراعات فى أوروبا من حربين عالميتين كان لهما بالغ الأثر على حياة البشر ونوع الحياة التى يعيشونها، وكذلك انتشار الحروب فى العالم الثالث بما كان يطلق عليه حرب بالوكالة.
• • •
إن العلاقات بين الدول هى علاقات تعاون وسلام بالأساس، فما الذى يجد عليها، ويحولها إلى تفاعلات صراعية؟ وكيف يمكن رأب الصدع وما أسفرت عنه ووقف التصعيد؟ هناك تفسيرات عديدة لنشوب الصراعات بين الدول منها سوء الفهم وسوء الإدراك لنوايا الدول وكذلك سوء التقدير لموازين القوى، هناك كذلك محاولات تسميم وتشويه العلاقات بين الدول، ثم هناك أيضا الدور التصعيدى للطرف الثالث سواء لتغذية الصراع أو تصعيده، وبالتأكيد قد يكون هناك تضارب وتعارض فى المصالح القومية للدول، ومما يعقد الموقف فى كثير من الأحيان ما يطلق عليه التحقق الذاتى للنبوءة، أى إن الدولة تحول توقعاتها السلبية للآخرين إلى حقيقة تبنى عليها علاقتها معهم.
فى أعقاب الحرب العالمية الأولى أنشأت الدول المنتصرة عصبة الأمم وفى أعقاب الحرب العالمية الثانية أنشأت الدول الأمم المتحدة بقصد احتواء الصراعات ومنع نشوب الحروب، كما أنشأت المنظمات الدولية الإقليمية لذات الغرض، ومع ذلك تفاقمت الصراعات الدولية نظرا لتباين المصالح وتعارضها. وتحولت إلى حروب مدمرة خصوصا فى العالم الثالث الذى صار ضحية للصراعات الدولية التى شابها التنافس الأيديولوجى بين الرأسمالية والاشتراكية، وإن كان مردها الحقيقى الصراع على تحقيق المصالح الوطنية ولو على حساب الأطراف الأخرى.
وتنوعت جهود العلماء لاحتواء الصراعات ومحاولة حلها، وتدور فى مجملها حول حتمية التفاوض بين الأطراف المتصارعة، بصرف النظر عن شكل التفاوض ومستواه واستراتيجيته وأدواته، وكيفية الانتقال من اللعبة الصفرية والتى يسعى طرف إلى تحقيق جميع المكاسب على حساب طرف آخر يتحمل كل الخسائر إلى لعبة أخرى يكسب فيها الجميع وإن كان بدرجات ونسب مختلفة. واعتمد البعض على تشابك الأدوات السياسية والسيكولوجية فيما صار يطلق عليه الذهاب إلى الخلوة retreat بعيدا عن صخب الحياة وتعقيداتها والتركيز على التفاعل التلقائى بين مختلف الأطراف مع توافر طرف ثالث يتولى تيسير سبل التفاهم وتقريب وجهات النظر والإعلاء بالمستقبل والتغاضى عن الماضى، وفسحة من الوقت لتنشيط العلاقات الاجتماعية بين المجتمعين، وقد بدأ هربرت كيلمان الأستاذ بجامعة هارفارد هذا الجهد بدعوة الطرفين الفلسطينى والإسرائيلى فى عدة خلوات لإذابة الجليد بينهما، وتقوم الدول باستخدام هذه الطريقة بنجاح، فالمفاوضات المصرية الإسرائيلية والبريطانية الأيرلندية عقدت فى منتجع كامب ديفيد بولاية ميريلاند، وأجريت جميع المفاوضات التركية الإيرانية الروسية بشأن سوريا فى سوتشى، وهكذا، يرتبط بهذا المنهج ما يطلق عليه الدبلوماسية غير الرسمية أو backdoor diplomacy، حيث يجتمع خبراء وعلماء من مختلف أطراف الصراع فى مكان محايد لمناقشة تفصيلية للمسائل الخلافية بخصوص صراع مستعصى الحل ويتم نقل مختلف وجهات النظر إلى الدول المعنية والتى تدخل فى تفاوض رسمى.
يضاف إلى ما سبق ويتعلق بالصراعات المعقدة والممتدة والمتوالدة، فكر السلام من خلال التنمية حيث يتم تصور جديد للمستقبل يقوم على التنمية المستدامة لأطراف الصراع وخلق مصالح وطنية تتحقق بالتعاون السلمى وتتضرر بالصراع، وهكذا تبنى إدوارد عازار اتجاها قويا بدعوة الدول إلى الدخول فى استراتيجيات تنمية مشتركة طويلة المدى تحتاج إلى الصبر والمثابرة، وقد صدر عن وزارة الخارجية الأمريكية عام 1979 وثيقة أطلق عليها المشروعات المشتركة فى الشرق الأوسط طرحت فيها مجموعة من المشروعات التى يمكن لمصر وإسرائيل أن يتعاونا فيها لتحقيق تنمية تنعكس على الطرفين بفوائد اقتصادية ومالية محسوسة، صحيح أن ذلك لم يتم عمليا ولكنه أسلوب مشروع فى حل الصراعات والانتقال إلى حالتى السلام والتعاون.
وقد أضاف جالتونج بعدا آخر يتعلق بحتمية إجراء تغييرات هيكلية من أجل إرساء الأسس الصحيحة لحل الصراعات، فقط أكد فى جميع دراساته أن العنف يعود إلى خلل سقيم فى بنية العلاقات والتفاعلات والمصالح، وأن تعديل السلوك من الصراع إلى السلام يتطلب بالضرورة إعادة الهيكلة.
بطبيعة الحال لا يمكن حل الصراع بالقوة المسلحة وحدها، وإن كان التصعيد إلى الحرب يؤدى إلى خلخلة الجمود الاستراتيجى والتحول الحتمى إلى إدارة واحتواء الصراع، ولا ريب أن وقف الحرب الروسية الأوكرانية لا يمكن أن يتم إلا إذا دخل الطرفان فى مفاوضات جادة وبوساطة دولية أكثر حيادية من الغرب أو الولايات المتحدة، بيد أن كل طرف لن يحقق جميع الأهداف التى كان يسعى إلى تحقيقها عندما بدأت العمليات العسكرية فى فبراير الماضى، لأن التوصل إلى تسوية مكلف استراتيجيا وماليا، ولكنه ضرورة سياسيا وإنسانيا ولا مناص من أن يتحمل كل طرف جزءا من التكلفة بطريق المساومة والتوفيق.
• • •
فى وطننا العربى، حيث تحولت الصراعات الداخلية فى دول عدة منها إلى صراعات معقدة بأطراف إقليمية طامعة وأطراف دولية نشطة، نحن فى أشد الحاجة إلى التفاوض الجاد والذى يخرج الجميع منه آمنا مطمئنا، يحقق جزءا من مصالحه ويسمح للآخرين بتحقيق جزء من مصالحهم وربما تتقدم مصر والسعودية والإمارات بمبادرة استراتيجية لدعوة الأطراف المحلية فى الدول العربية المنغمسة فى الصراعات إلى خلوة عربية لمصالحة إبداعية تلم الشمل وتسد الطريق أمام القوى الخارجية إقليمية كانت أم عالمية لحماية المصالح الوطنية وإعادة بناء الدولة فى ليبيا واليمن وسوريا والصومال وغيرها، وكلما كانت الحركة السياسية فى هذا الاتجاه أسرع كلما جنبنا الدول العربية حبيسة الصراعات خسائر فادحة وانتقلنا إلى مرحلة إعادة بناء الدولة العربية فى عالم يصبو إلى الاستقرار والأمن.
نقلا عن الشروق