"انقلاب باريس":
توجهات التيار اليميني في أوروبا إزاء الشرق الأوسط

"انقلاب باريس":

توجهات التيار اليميني في أوروبا إزاء الشرق الأوسط



أعادت التقارير التي كشفت، في 28 أكتوبر الجاري، عن تورط عناصر يمينية في محاولة انقلاب للاستيلاء على السلطة في فرنسا، التيار اليميني إلى الواجهة مجدداً، وهو التيار الذي تصاعد حضوره في الساحة السياسية الأوروبية خلال السنوات الماضية. ومع هذا الحضور باتت رؤية هذا التيار لقضايا وأزمات الشرق الأوسط موضع اهتمام متزايد، حيث تقاطعت مواقف ورؤى ممثليه في مختلف الدول الأوروبية مع قضايا المنطقة. وبقدر ما كان التيار اليميني ينطلق من توجهات رافضة لسياسات الأنظمة الحاكمة في الدول الأوروبية تجاه المنطقة، فإن التهديدات القادمة من الشرق الأوسط، وخاصة تلك المتعلقة بالإرهاب والهجرة، شكلت المحدد الأهم لمواقف هذا التيار من أزمات المنطقة.

حضور متزايد

لا يزل تيار اليمين المتطرف حاضراً في المشهد السياسي الأوروبي، رغم أن اتجاهات عديدة رجحت خفوت تأثيره. ولعل هذا ما عبّرت عنه التقارير التي أشارت، في 28 أكتوبر الحالي، إلى إحباط السلطات الأمنية الفرنسية محاولة انقلاب، كان يقودها السياسي اليميني والنائب السابق للحركة الديمقراطية ريمي داييه. وكشفت التحقيقات، بحسب التقارير، عن “استهداف الانقلاب الاستيلاء على قصر الإليزيه، بمساعدة العديد من أنصار داييه ومنظمة شبه عسكرية كبيرة، تضم أشخاصاً مدنيين وعسكريين مع امتلاكهم أسلحة حقيقية وخطة تجنيد، ويرأس الفريق العسكري جنديان من الجيش الفرنسي“.

تأتي هذه التقارير في سياق تصاعد نفوذ وتأثير الخطاب اليميني في المجتمعات الأوروبية خلال السنوات الماضية، والذي لم يكن منفصلاً عما يجري في منطقة الشرق الأوسط، لأنه تزامن، بشكل أو بآخر، مع تفاقم الأزمات والصراعات في المنطقة. وفي هذا الإطار، استفادت القوى اليمينية المتطرفة من امتداد أزمات الشرق الأوسط إلى أوروبا من أجل تحقيق مكاسب سياسية. فعلى سبيل المثال، حصلت المرشحة الرئاسية اليمينية المتطرفة مارين لوبان، في الانتخابات الرئاسية التي أجريت في عام 2017، على 34% من الأصوات، مما يجعلها أفضل نتيجة انتخابية على الإطلاق لحزب الجبهة الوطنية اليميني، الذي أصبح اسمه فيما بعد التجمع الوطني. كما أنها تعد من المنافسين الرئيسيين للرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في الانتخابات الرئاسية القادمة التي سوف تجرى في أبريل 2022.

كما حصل حزب الحرية النمساوي المناهض للهجرة على 26% من الأصوات في انتخابات أكتوبر 2017 وانضم إلى الائتلاف الحاكم. وفي التشيك، حصل ميلوش زيمان، وهو معارض قوي للهجرة، على أغلبية الأصوات في الانتخابات الرئاسية عام 2018 ليهزم خصمه ويضمن فترة ولايته الثانية في الرئاسة، كما فاز فيكتور أوربان زعيم حزب فيدس الشعبوي اليميني المتطرف في المجر بولاية ثالثة على التوالي كرئيس للحكومة في عام 2018. وتكرر هذا الصعود اليميني في دول أوروبية أخرى مثل اليونان وهولندا وإيطاليا والسويد وكذلك ألمانيا.

محددات حاكمة

تستند رؤى التيار اليميني لقضايا الشرق الأوسط إلى عدد من التوجهات الرئيسية الحاكمة المتمثلة فيما يلي:

 1-ضرورة إبعاد المهاجرين من المنطقة: فعادة ما يعزى صعود اليمين المتطرف في أوروبا، في السنوات الأخيرة، إلى التدفقات الهائلة من المهاجرين من منطقة الشرق الأوسط، والتي أدت إلى احتكاكات ثقافية واقتصادية بين المجتمعات الأوروبية وهؤلاء المهاجرون. إذ نظرت قطاعات كبيرة من الأوروبيين إلى المهاجرين بوصفهم تهديداً كبيراً لأمن هذه المجتمعات، وهى النظرة التي أكسبت الخطاب اليميني المزيد من الزخم. فعلى سبيل المثال، خاض الحزب اليميني الألماني “البديل من أجل ألمانيا” الانتخابات التشريعية الأخيرة، في 26 سبتمبر 2021، ببرنامج انتخابي يقوم على الصرامة في مواجهة الهجرة واللجوء، وترحيلهم، وينتقد الحزب نظام اللجوء القائم، ويدعو إلى نظام حماية على أساس النموذج الاسترالي، والذي ينص على رفض طالبي اللجوء عند الحدود.

ويلاحظ أن هذا الموقف من الهجرة، القادمة بصورة رئيسية من الشرق الأوسط، استصحب معه موقف سلبي أيضاً من المسلمين، وتصويرهم كتهديد للدول الأوروبية. فعلى سبيل المثال، يشير البرنامج الانتخابي لحزب الحريات اليميني، في هولندا، في الفترة ما بين عامى 2021 و2025، إلى ضرورة إنشاء وزارة للهجرة وإعادة اللاجئين إلى بلادهم و”تطهير الدولة من الإسلام”. والمثير للانتباه أن هذا الخطاب أفضى إلى ظاهرتين رئيسيتين: أولاهما، تزايد جرائم الكراهية في أوروبا ضد المسلمين. وثانيتهما، سعى بعض الحكومات الأوروبية إلى المزايدة على أطروحات اليمين المتطرف عبر تبني خطاب وسياسات ضد المسلمين والمهاجرين بهدف تعزيز فرصها الانتخابية.

2- توسيع نطاق الصدام مع تركيا: وهو ما يكاد يكون سمة مشتركة بين غالبية أحزاب وحركات اليمين المتطرف في أوروبا. فهذه القوى تنظر إلى تركيا كتهديد ثقافي وسياسي للمجتمعات الأوروبية وخصوصياتها الحضارية والثقافية، ولذا فهى تعارض أى محاولة لانضمام تركيا للمنظومة الأوروبية. فضلاً عن تأثيرات قضية اللاجئين في السنوات الماضية، وتوظيف أنقرة لهذه القضية كورقة لمساومة الدول الأوروبية والضغط عليها، وهو ما عزز من عداء التيار اليميني لتركيا، وكذلك مهاجمة الحكومات الأوروبية التي وقعت اتفاقيات اللاجئين مع أنقرة، والمطالبة بإلغائها.

وبالرغم من التباينات بين قوى اليمين المتطرف والحكومات الأوروبية، ولاسيما الحكومة الألمانية السابقة بزعامة المستشارة المنتهية ولايتها انجيلا ميركل، حول قضية اللاجئين، والتفاهمات مع أنقرة بشأنها، فقد ظلت هناك مساحة للتوافق بين الطرفين حول بعض القضايا ومنها التعامل مع السياسة التركية في شرق المتوسط، فعلى سبيل المثال، صرحت مارين لوبان، في 14 سبتمبر 2020، بأنها تدعم الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في مواجهة تركيا، وقالت: “رغم وجود ملايين المسائل التي أختلف فيها مع ماكرون، إلا أنني أقف بحزم وراءه، ضد تهديدات أردوغان التي يمارس من خلالها الاستفزاز”.

3- اتباع نهج تصعيدي تجاه ملفات محددة: رغم سياسات تقليص الانخراط التي تتبناها غالبية الأحزاب اليمينية تجاه منطقة الشرق الأوسط، فإن بعض هذه الأحزاب تتبع نهجاً تصعيدياً إذا تعلق الأمر ببعض الملفات المحددة. ولعل النموذج الأهم على ذلك الموقف الهجومي الأخير من قبل مارين لوبان تجاه الجزائر، ففي 5 أكتوبر الجاري، أطلقت لوبان تصريحات شديدة اللهجة ضد الجزائر، ودعت إلى حرمان مواطنيها من التأشيرات ووقف تحويلاتهم البنكية. وقالت لوبان في مقطع فيديو نشرته في صفحتها على “فيسبوك”: “إن الجزائر التي تعودت على ضعف القادة الفرنسيين عليها أن تحترم فرنسا، لقد استدعت سفيرها ورفضت تحليق طائراتنا العاملة في مالي لمحاربة الإسلاموية”، مضيفة أن “هذا القرار يشكل خطراً على بلدينا وعلى أمن دول إفريقيا، وهو قرار غير مقبول وعلى فرنسا أن تفصل في هذا الشأن”، وأكدت على ضرورة “عدم منح تأشيرات للجزائريين ما دامت الجزائر ترفض استقبال مواطنيها الذين قررت فرنسا ترحيلهم”.

4- تعزيز التقارب السياسي مع روسيا: خلال السنوات الماضية، أبدت تلك الأحزاب مواقف عديدة كشفت عن تماهيها مع بعض التوجهات العامة للسياسة الخارجية لروسيا في عهد الرئيس فيلاديمير بوتين، لاسيما ما يتعلق بتعزيز القومية الروسية، والسعى لترسيخ القيم المجتمعية المحافظة، بالتوازي مع توجيه انتقادات قوية للسياسات الأوروبية والأمريكية إزاء بعض القضايا التي تحظى باهتمام خاص من جانبها. ومن هنا، برزت اتجاهات عديدة ترى أن التصويت لهذه الأحزاب في الاستحقاقات التي تشهدها الدول الأوروبية هو تعزيز لحضور روسيا في الوقت ذاته.

5- دعم الانفتاح على النظام السوري: تتعاطى بعض تلك الأحزاب إيجابياً مع التغيرات التي شهدتها توازنات القوى على الأرض في سوريا لصالح نظام الرئيس بشار الأسد، على عكس المواقف الرسمية لبعض الدول الأوروبية. وقد بدا ذلك جلياً في الزيارة التي قام بها النائب الفرنسي في البرلمان الأوروبي تيري مارياني، عضو حزب التجمع الوطني اليميني الفرنسي، ولقاءه مع الرئيس السوري بشار الأسد في 21 أغسطس الماضي.

ومن دون شك، فإن هذا الموقف اليميني من النظام السوري لا ينفصل عن ملف اللاجئين والمهاجرين في أوروبا، إذ عملت القوى اليمينية على تصوير الأوضاع في سوريا بأنها أصبحت مستقرة، على نحو يمكن معه، في رؤيتها، إعادة المهاجرين (ولو بشكل قسري) إلى هناك.  

6- الدعوة للاعتراف بنظام حركة “طالبان”: طرحت بعض أحزاب اليمين الأوروبي فكرة التفاوض مع حركة “طالبان” في أفغانستان، وربما الاعتراف بالحركة أيضاً، باعتباره مدخلاً لتسوية قضية المهاجرين في أوروبا. وعبّر عن هذا التوجه حزب البديل من أجل ألمانيا، إذ صرح رئيس الحزب تينو كروبالا، في 9 سبتمبر الفائت، بأنه “يجب الاعتراف بالحكومة الأفغانية بأقصى سرعة ممكنة، كى يمكننا ترحيل مهاجرين ملزمين بالرحيل إلى أفغانستان”.

صحيح أن هذا الموقف يعكس أولوية ملف المهاجرين بالنسبة للحزب، وتيار اليمين بشكل عام، ولكنه في الوقت ذاته ينطوي على نهج براجماتي في إدارة العلاقات الخارجية، ومحاولة الحفاظ على النفوذ الخارجي والمصالح الألمانية. ففي الخطاب ذاته، ذكر كروبالا أن العلاقات الدبلوماسية يجب “ألا تعتمد على إذا ما كان المرء يشترك في العقيدة الخاصة بالبلد أم لا”، وأضاف: “يجب على أى حال من الأحوال ألا تظل السفارة الألمانية في كابول شاغرة طوال سبعة أعوام مثلما حدث مع السفارة الألمانية في العاصمة الليبية طرابلس”.

ختاماً، من الصعب القول بأن تيار اليمين المتطرف سيتراجع تأثيره في أوروبا خلال السنوات القادمة، لاسيما أن الخطاب الذي يروج له لا يزال يحظى بتأييد من قطاعات جماهيرية لا بأس بها، كما أن غياب بعض القيادات عن المشهد الأوروبي، على غرار انجيلا ميركل، قد يفسح المجال وينتج فرصاً جديدة أمام هذا التيار لتعزيز حضوره. ومع هذه المعطيات، ستكون قضايا الشرق الأوسط واحدة من القضايا الهامة بالنسبة للتيار اليميني، الذي تعتقد أغلب مكوناته أن المنطقة مصدر العديد من التهديدات وربما يكون من الأفضل تقليل الانخراط في أزماتها، بعد إعادة المهاجرين إليها.