تعامل كثيرون مع التطورات الأخيرة فى ملف العلاقات بين مصر وكل من قطر وتركيا على أنه يحمل تغيرا حاسما فى السياسة الخارجية وغير متعارف عليه فى العلاقات الإقليمية. وتغافل هؤلاء عما يجرى على الساحة الدولية من حوارات ومناقشات واجتماعات تتم بين دول مختلفة تتعلق بوضع آليات معينة للتوصل إلى تفاهمات بما يحافظ على الحد الأدنى من مصالح جميع الأطراف.
يستحق ما حدث من تغيرات على الساحة الإقليمية فى الآونة الأخيرة المزيد من الإمعان فى أسبابه ودوافعه وجدواه ونتائجه. فقد نرى حاليا الكثير من التحولات الدراماتيكية بين دول كانت منبوذة ويصعب التفكير فى تطبيع العلاقات معها.
لم تعد الصيغة القديمة الخاصة بالعداء المطلق أو الخصومة مجهولة المصير سائدة فى إدارة الأزمات الإقليمية، فمن الممكن التفاهم حول قضية والخلاف فى أخرى دون الوصول إلى حد العداء التام بين دولتين، فالمصالح وحدها هى القادرة على التحكم فى تثبيت أو تحريك العلاقات إلى أعلى أو إلى أسفل، والهدوء والتصعيد.
لم يمنع التباين الشديد بين روسيا والولايات المتحدة من جلوسهما معا لحل بعض الإشكاليات الأمنية المتعلقة بما يجرى فى أوكرانيا أو غيرها من الأزمات والصراعات الإقليمية التى تتنافر فيها مصالح البلدين، ولا تزال طريقة تعامل واشنطن وموسكو فى الأزمة السورية مثلا حيا للتوافق والتباعد والتكيف والتأقلم والتعاون والتنسيق.
زادت الرغبة فى ترويض الخلافات بدلا من تصفيرها، حيث وجدت الدول التى لجأت إلى تسوية المشكلات أنها أمام واقع مرتبك لا يقبل وئاما دائما، وهو الشعور نفسه الذى بدأ يتزايد بشأن العداوة المطلقة أو ما يعرف فى النظريات السياسية بالمعادلة الصفرية الشهيرة التى تقوم على قاعدة مكاسب دولة خسارة للأخرى والعكس صحيح.
إذا طبقنا ما قامت به مصر مع كل من قطر وتركيا على أنه يتماشى مع منهج الترويض الحاصل للخلافات بين دول عديدة سوف تتراجع معالم الاندهاش التى ارتسمت على وجوه البعض من المتابعين، فعندما توضع التحركات فى سياق دولى عام يريد تغليب المصالح ووضعها فى مرتبة متقدمة من السهولة فهم الأسباب التى دفعت القاهرة والدوحة وأنقرة إلى محاولة طى الصفحات القاتمة فى سجل العلاقات المشتركة.
تبتعد هذه الخطوات عن فكرة التنازل من أحد أو تحقيق مكاسب لأحد، فالواقع بدأ يفرض طقوسه على جميع الدول الحية، ولا يعنى أن العالم مقدم على مرحلة مثالية من الهدوء والتعايش والسلام والاستقرار، فالنزاعات لن تنتهى، والخلافات لن تتلاشى، والصراعات بين الدول لن تتوقف. كل ما يمكن أن يحدث يصب فى خانة عدم الإمعان فى الخصومة والدخول فى عداوة تكبد أصحابها خسائر باهظة، ومن ثم تخفيف الأعباء عن كاهل الدول، كما يجرى فى حياة الكثير من البشر عندما تشتد الأزمات الاقتصادية عليهم.
تتطلب هذه الأزمات قدرا من الهدوء السياسى والحنكة الأمنية كى تتمكن الدول من إيجاد حلول عاجلة لها، لأن التزاحم يضاعف التحديات ويؤثر سلبيا على الأداء الرسمى للدول. وإذا كانت هناك إمكانية للتفاهم دون مساس بالثوابت الرئيسية من الأفضل تنحية خلافات يمكن أن تجلب معها مشكلات إضافية.
يمثل القبول بصيغة تفاهم الدول واختلافها فى آن واحد مخرجا مناسبا لبعض المواقف الحرجة، ففى الأزمة الأوكرانية هناك فريق محدود مع روسيا وآخر أكبر نسبيا يقف فى صف المعسكر الغربى بقيادة الولايات المتحدة، وهناك فريق ثالث طويل يوصف بالحياد، لكنه يتنقل بين الفريقين ويمكن احتسابه تارة مع هذا وأخرى مع ذاك.
يمكن أن تتحول هذه الأزمة إلى بداية حقيقية لزيادة فرص ترويض الخلافات والسعى إلى تطبيقها عمليا، لأنها كشفت عن صعوبة بالغة فى تبنى موقف مؤيد أو رافض حتى نهاية الخط، ولذلك فخيارات من نوعية مع وضد أو نعم ولكن، يمكن أن تشق طريقها الفترة المقبلة كبديل للمواقف الحدية والحاسمة التى سادت لفترة طويلة.
يطور العالم آلياته فى التعامل مع الأزمات المعقدة، ووسط التشابكات المتعددة يبدو الاعتماد على آليات تقليدية غيرمنتج، وربما نجد فى الفترة المقبلة حوارات واسعة بين واشنطن وكل من موسكو وبكين، على الرغم من بلوغ الخلافات مرحلة خطيرة.
ولأن الجميع لا يستطيع تحمل تبعات التباعد فمن المهم أن يتم السعى نحو الاحتواء بدلا من الصدام، مادام أن هناك مراعاة للحدود التى يجب أن يقف عندها كل طرف، والتى لها علاقة وثيقة بعدم الجور على المصالح بصورة لا يمكن تحملها.
يؤدى منهج الترويض إلى تقويض دور القوى التى تتغذى على الخلافات، أو إلى انتعاشها إذا لم تكن التفاهمات بين الدول تتوافر لها الصلابة المطلوبة للوقوف فى وجه العواصف الرافضة لهذا المنهج، وبالتالى رواج سوق الحروب بالوكالة، السياسية والإعلامية والأمنية،ما لم تكن الدول المتصالحة وضعت أسسا واضحة ومحددة لمنع تسلل هذا النوع من الأمراض، والذى من السهل اكتشافه.
يتنافى الترويض المستهدف مع الحيل والألاعيب، بل يمثل خطرا داهما عليها، لأنه يعيد تكرار الأزمة بطريقة أشد صعوبة، فالخلافات إذا تم التعامل معها بحكمة يمكن الحد من روافدها السلبية، بينما تؤدى عدم الرشادة إلى انفلاتها وظهور غليان يفقد الثقة فى الطرف المحرض، وقد ينجم صدام لا يجد له الطرفان وسيلة للعلاج، فمن بديهيات التوجه نحو التفاهم عدم تبنى تصورات تتسبب فى تحويل الخلاف إلى عداء.
نقلا عن الأهرام