في الولايات المتحدة يوجد الكثير من الأسئلة والقليل من الإجابات، خصوصاً تلك المتعلقة بأمور تعدّ في أميركا «مصيرية». بعض هذه الأسئلة لا يهمنا لأنه ليس مطروحاً لدينا، ومنها عما إذا كان ممكناً إعادة النظر من قبل المحكمة الدستورية العليا في قانون «رو ضد ويد»، وهو القانون الخاص بحق الإجهاض على اعتبار أن الجنين جزء من جسد المرأة، وما دامت المرأة حرة في جسدها فهكذا يكون الحال. وبعضها الآخر لا يهمنا كثيراً، ولكنه قد يؤثر في الدولة الأميركية التي يهمنا أمرها؛ ولذا فإننا نتابعها، مثل: هل سيتم التدخل لتقييد أو منع «المماطلة أو Filibuster» التي باتت أساسية في معارضة التشريعات. ولمن لا يعلم، فإن هذا الحق وضع لحماية حق الأقلية في التعبير، حيث يتاح لها حق الكلام في مجلس الشيوخ، ولا يتم المنع إلا بأغلبية الثلثين أي 67 صوتاً. في عام 1971 جرى تخفيض هذا الحد إلى 60 صوتاً، وهو حاجز مانع يجبر الأغلبية على التفاوض مع الأقلية للبحث عن حل وسط. في الواقع بات الحل الوسط مستحيلاً، وبات ممكناً إغلاق الحكومة الفيدرالية، ولكنه لم يعد ممكناً الحصول على اتفاق إلا تلك المؤقتة لأشهر. المحكمة الدستورية العليا تقع على رأس السلطة القضائية ذات العنفوان والقدرة التي توازن السلطات التنفيذية والتشريعية. ولكن في أمر المحكمة حظوظاً؛ لأنها على عكس السلطات الأخرى ليست مقيدة بزمن، فالذين يوضعون فيها من القضاة يخدمون العدالة طوال حياتهم.
الدستور الأميركي لم يحدد عدداً للقضاة، ولكن الأمر استقر الآن بعد عقود من الممارسة على تسعة، جرت العادة خلال العقود الماضية على انقسامهم بين الليبراليين والمحافظين. ولمّا كان الرئيس يعين القضاة، فإن الرئيس ترمب كان محظوظاً؛ لأن المحكمة باتت في عهده منقسمة بين ستة من المحافظين وثلاثة من الليبراليين. الديمقراطيون بخلاء يريدون تقييد «الفيليباستر» أو إلغاءه؛ ولكنهم كرماء في توسيع عدد القضاة في المحكمة لتحقيق توازن يمنع النظام القضائي الأميركي من الانهيار.
كل هذه الأسئلة لا توجد عنها إجابات حتى الآن، ولكن أصعب الأسئلة وأكثرها إثارة في الوقت نفسه، هي: هل سيترشح الرئيس السابق دونالد ترمب للرئاسة في الانتخابات الرئاسية المقبلة في 2024؟ ورغم أن ترمب لم يترك فرصة أو لحظة للتلميح والغمز واللمز في أنه سوف يكون المرشح الجمهوري في تلك الانتخابات، فإنه لا يريد قولها صراحة، ويبدو أنه يستمتع بهذه الحالة. القريبون منه متأكدون من الترشح، ولكنهم يعلمون أن الرجل لا يفعل شيئاً إلا لتعزيز قاعدته الانتخابية، وفي هذه المرحلة من المنافسة مع بايدن، فإن عدم إعلانه يجعل القاعدة تلتصق به أكثر لأنها تحبه وتؤيده وكفى، سواء كان داخل أو خارج البيت الأبيض. كذلك، فإن ترمب يريد تحقيق هدفين مهمين لمستقبله السياسي، أولهما، أنه يريد السيطرة على الحزب الجمهوري تماماً من خلال التخلص من المخالفين له، وتحقيق الفوز للمناصرين له من المرشحين لانتخابات المجلس النيابي والشيوخ خلال الانتخابات المقبلة في 2022، أو المناصب المهمة في الولايات من الحكام إلى المناصب المنتخبة المهمة الأخرى. والآخر، أنه يريد التخلص من كل المنافسين له في الانتخابات التمهيدية للحزب؛ فهو يريد أن يكون مرشحاً للحزب بينما يدير معركته الانتخابية مع المرشح الديمقراطي بايدن أو غيره. أدوات ترمب لتحقيق ذلك هي رفضه التام لكل الجمهوريين الذين يلعبون على الحبال، أو الذين لهم جسور مع الحزب الديمقراطي، أو من يؤيدون بالطبع منافسته الحالية والممثلة للمعتدلين في الحزب الجمهوري ليز شيني، إحدى القيادات المهمة للحزب، والتي تعطيها صفتها النسائية، فضلاً عن اعتدالها ومقاومتها لنفوذ وهيمنة ترمب، مميزات مهمة.
أدوات ترمب للوصول الظافر إلى البيت الأبيض تبدأ فيما يكرهه كل الأميركيين، وهو التشكيك في نتائج الانتخابات الرئاسية الماضية. الحجة الأساسية لترمب، هي أنه هُزم وفاز بايدن لأن الانتخابات قد زُوّرت، وصوّت لها من ليس لهم حق التصويت، أو الذين كانوا في عداد الموتى. ورغم أن ترمب لم يكسب أي قضية من القضايا التي رفعها في الولايات، أو في عمليات المراجعة المتكررة من قبل مكاتب تحقيق محايدة، أو إعادة الفرز التي حدثت في ولايات عدة، وفي كل الادعاءات التي أقامها كان الفشل نصيبها، وأحياناً زيادة العداء له وللجمهوريين؛ لأنه خلال عملية الرفض التي يقوم بها للقبول بنتائج الانتخابات، فإن اتهاماته لا تتوقف عند الديمقراطيين أو النظام الانتخابي والاحتجاج على التصويت البريدي، وإنما تصل إلى مئات من العاملين الأميركيين في العملية الانتخابية وبعضهم ذوو طبيعة قضائية يصعب الطعن في نزاهتها. ورغم أن المرجح هو أن ترمب يعرف كل ذلك، فإن استمراره في تكرار الاتهام يعزز الرأي الذي يقول، إن ترمب يؤمن بأن تكرار الكذبة بإصرار يحولها إلى حقيقة.
الجانب الآخر لحملة ترمب يركز على الفشل الديمقراطي أو فشل الرئيس بايدن شخصياً، خصوصاً في أمور الخروج من أفغانستان، أو إقرار الموازنة العامة، والفشل في إقرار القانون الخاص بالبنية الأساسية، ومؤخراً في مقاومة «كوفيد – 19» الذي بلغت ضحاياه في عهد بايدن أكثر من عددها خلال الأشهر نفسها من عهد ترمب في العام الماضي. ما يعطي لترمب فرصة أكبر أمران: أولهما أن التقدميين في الحزب الديمقراطي يمارسون ضغوطاً كبيرة على الرئيس بايدن، بحيث بات كل ما يقدمه من مقترحات تشريعية لا تجري مقاومتها فقط من قبل التشريعيين من الجمهوريين، وإنما من تيار قوي من المعتدلين الديمقراطيين. الضغط التقدمي، بالإضافة إلى ذلك، يجعل اتهام الحزب الديمقراطي بأنه بات حزباً اشتراكياً سهلاً. والآخر، أن تعزيز ترمب قاعدته الانتخابية بالمزيد من الضغط على بايدن يجعل الأطراف اليمينية الجمهورية لصيقة مع ترمب وأكثر التزاماً بالتصويت له والمسابقة على الاقتراب منه بالمال والأصوات. وفي غير التأكيد على الفشل الديمقراطي، فإن الديمقراطيين وحدهم يوفرون له الصورة التي لطالما رسمها للحزب الديمقراطي، فهو الحزب صاحب القدر الأكبر من الإنفاق العام، وهو الحزب الضعيف خارجياً (وذلك رغم أن ترمب هو الآخر كان من أيّد وعزم على الانسحاب من أفغانستان والشرق الأوسط كله) والذي يستسلم بسهولة في المفاوضات. رجوع بايدن بسهولة للمفاوضات مع إيران أعطى ترمب مدداً إضافياً لكي يدلل به على رخاوة الحزب الديمقراطي.
هل معنى ذلك أن ترمب سوف يدخل البيت الأبيض في 20 يناير (كانون الثاني) 2025؟ الأرجح، أن الإجابة هي لا؛ وأسباب ذلك تبدأ من ترمب الذي لا يزال تحت ردائه الكثير من الذنوب والمعاصي المترجمة إلى قضايا أكثر من واحدة قد تكون طريقه إلى الإدانة. السبب الآخر، أن أسرة ترمب نفسها لا تكف عن إصدار الكتب التي تدينه في أمور إنسانية وقضائية. كتاب بوب وودورد – الخطر – الأخير يشير إلى درجة كبيرة من الخطر على أميركا يسببها وجود ترمب.
نقلا عن الشرق الأوسط