أعلن تنظيم “داعش خراسان”، في 22 مارس الجاري، مسئوليته عن الهجوم الإرهابي الذي استهدف حفلاً موسيقياً في موسكو وأسفر عن سقوط نحو 137 قتيلاً. ورغم أن روسيا تبدو حريصة حتى الآن على انتظار نتائج التحقيقات قبل أن توضح موقفها الرسمي إزاء الهجوم والجهة المنفذة له، في ظل تعمدها عدم استبعاد الربط بين الهجوم والحرب التي تدور رحاها في أوكرانيا منذ 24 فبراير 2022 وحتى الآن، فضلاً عن استمرار احتمالات وقوع هجمات جديدة بعد إحباط هجوم في مقاطعة سامارا في 26 مارس الجاري، إلا أن ذلك لا ينفي في مجمله أنه أياً كان طبيعة الموقف الذي تتبناه روسيا في النهاية، فإن هذا الهجوم تحديداً سوف يفرض تداعيات مباشرة على اتجاهات سياستها الخارجية، خاصة في منطقة الشرق الأوسط.

اعتباران رئيسيان

هذا الاحتمال يكتسب زخماً خاصاً في ضوء اعتبارين رئيسيين: أولهما، أن المنطقة باتت تحظى باهتمام خاص من جانب روسيا، حتى قبل اندلاع الحرب في أوكرانيا، لأسباب خاصة بتأمين مصالحها ونفوذها فيها وضمان وصولها إلى البحر المتوسط، وتعزيز حضورها في بعض الملفات الإقليمية الرئيسية. وجاءت الحرب في أوكرانيا لتزيد بدورها من أهمية المنطقة بالنسبة لروسيا، خاصة في ظل سعيها إلى استغلال نفوذها في إدارة التصعيد مع الدول الغربية، فضلاً عن حرصها على ملء الفراغ الناتج عن الانسحاب الأمريكي من بعض الأزمات لصالح الاهتمام بانتقال الثِقل الدولي إلى منطقة الإندوباسيفيك.

وثانيهما، أن التنظيمات الإرهابية سعت في الفترة الماضية إلى استغلال الأزمات التي تواجهها العديد من دول المنطقة من أجل توسيع نطاق نفوذها فيها، لدرجة أن بعض هذه الدول تحولت، في بعض المراحل، إلى بؤر استقطاب لهذه التنظيمات، التي انتقل بعضها من منطقة وسط آسيا القريبة من روسيا، في حين سعى بعضها الآخر إلى تجنيد عناصر من أنحاء مختلفة من العالم، بما فيها الدول الغربية.

ومن هنا، فإن اتجاهات عديدة اعتبرت أن أحد دوافع تنظيم “داعش خراسان” لتنفيذ هذه العملية داخل موسكو يتمثل في الرد على الدور الذي قامت به روسيا داخل سوريا منذ عام 2015، عندما بدأت في الانخراط العسكري في الصراع السوري، على نحو كان له تأثير رئيسي في تغير توازنات القوى لصالح نظام الرئيس السوري بشار الأسد.

انعكاسات متوقعة

من المرجح أن يفرض الهجوم الإرهابي تحولات رئيسية في سياسة مكافحة الإرهاب التي تتبعها روسيا، وخاصة في بعض دول الأزمات، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:

1- تنفيذ ضربات عسكرية في إدلب: يثير الهجوم الإرهابي مخاوف موسكو من إمكانية تعرض قواتها في سوريا لمزيد من تلك الهجمات، من جانب تنظيمى “داعش” و”القاعدة” في سوريا، خاصة أن لروسيا وجود عسكري ومواقع عسكرية مهمة في سوريا على غرار قاعدة حميميم، وقد تعرضت القوات الروسية بالفعل قبل ذلك لهجمات من جانب تنظيم “داعش” في سوريا، إلا أنها استطاعت التصدي لها أو تقليص تداعياتها. لكن مع انشغالها بإدارة العمليات العسكرية في أوكرانيا وبتعقب العناصر الإرهابية التي ربما تحاول تنفيذ مزيد من العمليات داخل أراضيها، لا تستبعد موسكو أن تتعرض مصالحها لمزيد من التهديدات، على نحو قد يدفعها أولاً إلى فرض مزيد من الإجراءات الأمنية المشددة على وجودها العسكري في سوريا، وتوجيه ضربات قوية لمواقع وقيادات التنظيمات الإرهابية، لا سيما في إدلب التي يطلق عليها “خزان الإرهابيين” في سوريا.

2- تعزيز قدرات “الفيلق الأفريقي”: تتعرض المصالح الروسية وقوات مليشيا “فاجنر” لهجمات إرهابية من جانب التنظيمات الإرهابية النشطة في منطقة الساحل الأفريقي، وخاصة تنظيم “نصرة الإسلام والمسلمين” (الذي بايع تنظيم “القاعدة”). إذ وجه قائد هذا التنظيم، اياد أغ غالي، في 15 ديسمبر الماضي، تهديدات مباشرة إلى روسيا وتوعد بهزيمتها.

لذلك من المحتمل أن تتجه موسكو إلى تعزيز قدرات “الفيلق الأفريقي” في منطقة الساحل في إطار سياستها القائمة على ضرورة توجيه ضربات استباقية للتنظيمات الإرهابية، والمشاركة مع دولها في عمليات مكافحة الإرهاب في المنطقة، خاصة أنها تبدي أهمية خاصة لتوسيع نطاق حضورها الاقتصادي والأمني والعسكري في هذه المنطقة، في سياق المنافسة التي تتصاعد حدتها مع فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية.

3- دعم التعاون مع الجيش الليبي: وذلك من أجل تفكيك الخلايا الإرهابية في غرب وجنوب ليبيا، إذ أن لدى روسيا وجود عسكري في ليبيا يتمثل في مستشارين عسكريين وعناصر من قوات “فاجنر”، كما أن هناك تعاوناً وتنسيقاً عسكرياً وأمنياً بين روسيا والجيش الليبي في مجال مكافحة الإرهاب. ورغم تراجع عمليات تنظيم “داعش” في ليبيا، إلا أن الخلايا التابعة له ما زالت تنشط في غرب وجنوب ليبيا، ومن ثم من المتوقع أن تتجه موسكو إلى توسيع نطاق التعاون القائم مع الجيش الليبي لتفكيك تلك الخلايا ومنع التنظيم من إعادة ترتيب صفوفه أو السيطرة على مناطق في الجنوب الليبي.

4- التنسيق مع إيران في وسط آسيا: كان لافتاً أن تنظيم “داعش خراسان” حرص على تنفيذ هجمات إرهابية داخل إيران أيضاً خلال المرحلة الماضية، على غرار الهجوم الذي وقع في كرمان في 3 يناير الماضي. وهنا، فإن ذلك قد يوفر حافزاً لروسيا من أجل توسيع نطاق التنسيق الأمني مع إيران في مواجهة التنظيم خلال المرحلة القادمة، وربما تتجه الدولتان أيضاً إلى محاولة الوصول إلى توافق بشأن إدارة العلاقات مع حركة “طالبان” في أفغانستان، على أساس أن ذلك يمكن أن يمثل آلية لاحتواء نشاط تنظيم “داعش خراسان” داخل أفغانستان، ومن ثم تقليص قدرته على استهداف مصالحهما أو محاولة اختراق حدودهما.

على ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن الهجوم الذي تعرضت له موسكو قد يكون بداية لمرحلة جديدة من التحركات الروسية، على مستويات مختلفة، في منطقة الشرق الأوسط، باعتبار أن الأزمات التي تتصاعد حدتها في تلك هذه المنطقة كانت هى المتغير الأساسي الذي أدى إلى تفاقم مخاطر وتهديدات التنظيمات الإرهابية التي تحاول في الفترة الحالية تعويض إخفاقاتها وتراجع أدوارها عبر تنفيذ عمليات نوعية في دول عديدة من خارج منطقة الشرق الأوسط.