عادت بي الذاكرة لأكثر من ثلثي قرن وأنا أتابع وقائع القمة العربية الصينية الأخيرة، وتحديداً لعام 1956 الذي شهد أول اعتراف عربي وأفريقي بما كان يُسمى آنذاك بالصين الشعبية، تمييزاً لها عن «الصين الوطنية» المعروفة حالياً باسم «تايوان» والتي كانت تُعْرَف أيضاً باسم «فورموزا» نسبةً إلى الجزيرة التي تشغلها من أرض الصين بعد أن ارتد لها معارضو الثورة الصينية في عام 1949. وكانت مصر قد اعترفت في مايو من ذلك العام بالصين الشعبية، في خطوة مثَّلت تحدياً للسياسة الغربية آنذاك، وبالذات الأميركية التي كانت تعتبر «فورموزا» ممثلاً شرعياً للصين، وتحتجز مقعد الصين في الأمم المتحدة لها. وتخيلتُ ماذا كان الرئيس الأميركي آنذاك «دوايت أيزنهاور»، الذي وصف الخطوةَ المصريةَ في حينه بأنها «عمل لا يُغتفر»، ليقول لو أنه بُعِث الآن حياً وشاهدَ القمة العربية الصينية تجمع طرفيها في شراكة استراتيجية عميقة متنوعة الأبعاد؟ بينما أقام هو وإدارتُه الدنيا ولم يقعدوها بسبب اعتراف دولة واحدة بالصين الشعبية. والواقع أنه ليس من المبالغة القول بأن انعقاد هذه القمة مؤشر أكيد على اكتمال تحول تاريخي، سواء في المسرح الدولي عامة أو في علاقات العرب الدولية خاصة.
لم يأتِ هذا التحول فجأةً بطبيعة الحال، وإنما كان نتاجاً لتراكم تطورات مهمة استغرقت عقوداً. فقد أخذت العزلةُ التي حاول الغربُ فرضَها على الصين في التآكل بالتدريج، واتخذت الجمعيةُ العامة للأمم المتحدة في عام 1971 قرارَها التاريخي بأن تكون الصينُ الشعبية هي الممثل الوحيد لدولة الصين في المنظمة الدولية، وأقامت الولاياتُ المتحدة نفسُها علاقاتٍ دبلوماسيةً كاملةً معها في عام 1979، ومن ناحيتها أخذت الصينُ تشق طريقَها بثبات نحو قمة النظام الدولي من خلال عملية هائلة للنمو الاقتصادي عززتها لاحقاً بطفرة في قوتها العسكرية. واستشعرت الولاياتُ المتحدةُ الخطرَ على مكانتها القيادية في النظام العالمي. وكانت الأفكارُ الساذجةُ التي روَّج لها البعض عن «نهاية التاريخ» قد صورت للنُخب الأميركية الحاكمة أن انفراد الولايات المتحدة بقيادة العالم بعد تفكك الاتحاد السوفييتي غير قابل للارتداد، وبدا التنافس الأميركي الصيني واضحاً للعيان حتى وصل الأمر لحديث غير منطقي عن انسحاب أميركي من الشرق الأوسط بغرض التركيز على مواجهة التحديات في آسيا.
ومن ناحية أخرى يبدو أن الغرب بقيادة الولايات المتحدة قد عجز عن أن يدرك التغيرات التي شهدتها عددٌ من القوى الإقليمية، وعلى رأسها قوى عربية أصبحت تملك من المقدرات ما يحفظ لها إرادتها المستقلة في اتخاذ القرارات التي تحفظ مصالحها الوطنية. وهكذا عاش الغرب في وهم القدرة على إملاء مواقف على الآخرين، حتى وإن كانت لا تحقق مصالحهم الوطنية، مع أن كل المؤشرات توضّح أنه إذا كانت بعض الإملاءات قد قُبِلت في السابق فإن الزمن قد تغير.
تبددت الأوهام الغربيةُ عبر مواقف عربية تاريخية كان أبرزها وحدة العرب في أكتوبر 1973 ضد إرادة الدول الكبرى. وإذا كان الغزو الأميركي للعراق، والانتفاضات الشعبية العربية، قد مثلا تطورات ألقت بظلالها على الأوضاع العربية، فإن النهج العربي المستقل قد برز بوضوح في الآونة الأخيرة من خلال الموقف العربي المتوازن تجاه الصراع في أوكرانيا وما بدا جلياً من أن هذا الموقف قد بُني على أساس المصالح الوطنية والعربية وحدها ولا شيء سواها، كما ظهر في قمة جدة للأمن والتنمية التي عُقدت في يوليو الماضي، والتي راجت التقارير قبلها عن تحالفات وقرارات تريد الولايات المتحدة فرضَها على الدول العربية، فجاءت النتائج مصداقاً للإرادة العربية المستقلة، وها هي القمة العربية الصينية تأتي تأكيداً جديداً، وحاسماً، لنهج عربي مستقل في الشؤون الدولية، مبني على المصالح العربية دون سواها.
نقلا عن الاتحاد