تسعى إيران إلى تطوير علاقاتها الاقتصادية مع سوريا بعد مرور أكثر من عقد على اندلاع الصراع المسلح. إذ يبدو أن إيران أدركت متأخرة أن اهتمامها بتعزيز نفوذها العسكري والثقافي داخل سوريا لم يوازِه اهتمام مقابل بدعم النفوذ الاقتصادي من خلال رفع مستوى العلاقات بين الطرفين. ورغم أن إيران اتخذت خطوات عديدة في هذا الصدد، إلا أنه بات واضحاً أن ثمة تحديات هيكلية ما زالت قائمة وتحول دون تطوير التعاون الاقتصادي بين طهران ودمشق، خاصة فيما يتعلق بعدم التعرف على طبيعة الأسواق والإمكانات الاقتصادية لسوريا، وغياب العلامات التجارية الإيرانية، وضعف الخدمات اللوجيستية الرئيسية، وضعف دور وزارة الخارجية في مجال الاقتصاد والتجارة، إذ يقتصر على الجوانب السياسية والأمنية فقط.
ألقت المساعي الإيرانية التي تهدف إلى تحسين العلاقات مع دول المنطقة بظلالها على تطوير العلاقات الاقتصادية مع سوريا، وهو الأمر الذي ظهرت بوادره مع مطلع عام 2022؛ حيث قام وزير الطرق والإسكان الإيراني، الجنرال في الحرس الثوري رستم قاسمي، بزيارة إلى دمشق والتقى الرئيس بشار الأسد في 11 من الشهر ذاته، وهو ما تقرر على إثره إطلاق مصرف مشترك، ومنطقة تجارة حرة بين الجانبين. وقبل ذلك التقى السفير الإيراني في دمشق مهدي سبحاني بوزير الاقتصاد والتجارة الخارجية السوري سامر خليل، في 8 يناير الجاري، لبحث سبل تعزيز العلاقات التجارية بين الطرفين، وخاصةً فيما يتعلق بالقطاع الصناعي والزراعي.
إشكاليات مختلفة
رغم أن سوريا لديها الكثير من الإمكانات الاقتصادية، التي كانت مزدهرة بقوة في فترة ما قبل عام 2011، مثل: المساحات الزراعية الشاسعة، والمصانع، والموانئ البحرية الهامة؛ إلا أن التوجه الإيراني نحو دمشق كان يتركز حول الجانب السياسي والأمني. ولكن فيما يتعلق بالجانب الاقتصادي، ما زالت هناك بعض المشكلات التي يمكن أن تقف أمام تطور العلاقات بين البلدين، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:
1- عدم الإلمام بطبيعة الأسواق: كشفت بعض الدراسات الإيرانية عن أنه رغم التقارب السياسي والثقافي بين طهران ودمشق، إلا أن التعرف على سوريا في إيران يتم من خلال وسائل الإعلام الأجنبية؛ حيث لا يعرف رجال الأعمال الإيرانيون عن سوريا إلا أنها دولة منهكة على كافة الأصعدة، ولا سيما بعد أحداث الربيع العربي عام 2011، خاصة أن توافر الأمن والأمان في أي دولة أمر هام للغاية بالنسبة للمستثمرين. ومن ناحية أخرى، لا يوجد اعتراف بالإمكانات الاقتصادية لسوريا في إيران؛ حيث ينظر التجار الإيرانيون لسوريا على أنها مثل العراق، رغم أن الوضع مختلف تماماً. ورغم الشهرة التي تحظى بها بعض المنتجات الإيرانية داخل السوق السوري، مثل صناعة السيراميك، إلا أن الجانب الكبير من الصناعات الإيرانية، ولا سيما القائمة على التقنيات الحديثة مثل صناعة الأدوية والكهرباء والبناء، ما زالت غير واضحة لدى الجانب السوري، فضلاً عن وجود بعض المنافسين مثل تركيا التي تستحوذ على ما يزيد على 20% من السوق السورية.
2- انخفاض معدل التبادل التجاري مع سوريا: أكد المدير العام للمكتب العربي الإفريقي لمنظمة تنمية التجارة الإيرانية، فرزاد بيلتن، في 17 يناير الجاري، أن الإحصاءات تظهر أنه خلال الأشهر السبعة الأولى من العام الإيراني الحالي (بدأ في 21 مارس 2021)، صدّرت إيران ما قيمته 73 مليون دولار إلى سوريا، وجاءت الواردات منها بنحو 10 ملايين دولار. وقال بيلتن في ذلك: “إن حجم التبادل التجاري بين البلدين قد انخفض”، مضيفاً: “مع بداية الاضطرابات السياسية والأمنية في سوريا، انخفض حجم التجارة بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية وهذا البلد حتى 105 ملايين دولار تم تسجيلها العام الماضي”. وتمتلك إيران حصة تقل عن 3% من السوق السورية، ويتمثل أحد التحديات الهامة التي تعيق زيادة نسبة التبادل التجاري بين البلدين في عدم وجود طرق برية يمكن من خلالها إتمام عملية التصدير والاستيراد؛ حيث يتكلف شحن السلع جزءاً كبيراً من ثمنها. كما تعاني طهران ودمشق من مشكلة أخرى تتمثل في النقل المصرفي على خلفية العقوبات الاقتصادية المشددة المفروضة عليهما.
3- الافتقار لخطة تفاعل جيد داخل السوق السورية: يتطلب تطوير العلاقات الاقتصادية مع أي دولة خطة فاعلة تركز على الأدوات التي يمكن استخدامها وأكثر المناطق والقطاعات أماناً حتى يتجه إليها المستثمرون، ولا سيما فيما يتعلق بدول الأزمات مثل سوريا والعراق. وفي هذا السياق، تتسم سوريا ببعض الخصائص التي تميزها عن دولٍ أخرى، فهي دولة تصنف على أنها صناعية، بما يعني أنها ستكون مستهلكاً إما للمواد الخام، أو المعدات والمعرفة التقنية، وهو ما يمكن أن توفره إيران. ولتحقيق هذا الهدف، تحتاج إيران أولاً إلى وجود عدد كبير من شركات التكنولوجيا الفائقة في هذه السوق، ثم إنشاء بنية تحتية تفاعلية لها، بالتوازي مع توفير التسهيلات اللازمة لتأمين هذه الشركات في مواجهة مخاطر التأسيس والخدمات. وفي هذا السياق، يختلف الموقف الإيراني مع دول مثل تركيا التي ضاعفت مستوى تبادلها التجاري مع الدول الإفريقية خمس مرات من 5.4 مليارات دولار في عام 2003 إلى 25.4 مليار دولار في عام 2020، والهند التي توجد لديها استراتيجية في التفاعلات الاقتصادية والتجارية مع مختلف دول العالم.
4- ضعف الخدمات اللوجيستية الرئيسية: تعتبر قضية اللوجستيات البرية من أهم الإشكاليات التي تحول دون تطور العلاقات الاقتصادية بين إيران وسوريا، فضلاً عن أن البنية التحتية اللازمة لذلك غير موجودة، أو بالأحرى معطلة، الأمر الذي يجعل من الصعب للغاية وضع خطط لتحسين العلاقات التجارية. ورغم أن الوضع فيما يتعلق باللوجستيات البحرية أفضل قليلاً، لكن يمتنع العديد من التجار عن نقل البضائع عن طريق البحر، بسبب الوقت الطويل الذي يستلزمه ملء العديد من السفن، والمسافات الطويلة التي تقطعها، بالتزامن مع المخاطر التي يمكن أن تتعرض لها هذه السفن في حالة كثافة الحمولة أو التغيرات المناخية. ومن هنا، يتضح أن مشاكل التجارة بين إيران ودمشق تتجاوز حدود ضرورة وجود الشركات القائمة على المعرفة (الشركات التكنولوجية) إلى تحديات هيكلية، وهو ما لا يقتصر فقط على سوريا، بل يمتد إلى العديد من دول العالم الأخرى مثل روسيا.
5- عدم وجود علامة تجارية إيرانية: تعد العلامة التجارية من أهم المحفزات التي يمكن أن تزيد الطلب على سلع دولة ما؛ حيث تحتاج سوريا، على سبيل المثال، إلى ما بين 20 إلى 30 مليون طن من الأسمنت سنوياً، ورغم وجود طاقات إنتاجية كبيرة لدى إيران فيما يتعلق بهذه السلعة، لكن تقف العلامة التجارية كحائط صد أمام رفع مستوى التعاون في هذا الصدد. والشاهد على ذلك، أن بعض شركات المعرفة الإيرانية (تكنولوجيا المعلومات) أفادت بأنها بالفعل تباحثت مع عدد من البنوك السورية لتأسيس تعاون متبادل، إلا أن الأخيرة رفضت، على نحو يعني أن إيران تحتاج إلى بذل مجهودات كبيرة في هذا الإطار من خلال إقامة المعارض للسلع الإيرانية في دمشق، ودعوة رجال الأعمال السوريين للمشاركة في برامج مختلفة لغرفة التجارة المشتركة مع سوريا، الأمر الذي من شأنه أن يخدم فكرة العلامة التجارية بشكل كبير، مثلما تفعل دول على غرار كوريا الجنوبية وتركيا.
6- غياب دور وزارة الخارجية: يبدو أن دور وزارة الخارجية الإيرانية يقتصر على الجوانب السياسية والأمنية فقط، ولا تمارس أي دور يُذكر في مجال الاقتصاد والتجارة؛ حيث تدير وزارة الصناعة هذه الأمور، وتتشكل الغرف التجارية في الغالب على أساس واردات وصادرات موارد الطاقة أو المواد الخام، إلى أن أصبح أكبر التجار الإيرانيين إما مستوردين أو مصدرين للمواد الخام والفستق والسجاد والزعفران. وبمعنى آخر، لا يوجد تجديد في هيكل الاقتصاد الإيراني؛ فرغم تعدد وتداخل الأدوار التي يمكن أن يقوم بها الكيان الواحد، إلا أن ذلك لم يحظَ باهتمام خاص من جانب إيران حتى الآن. وتختلف إيران -في هذا السياق- عن بعض الدول الإقليمية الأخرى مثل تركيا التي تضع المحددات الخاصة باستراتيجيتها الاقتصادية على أجندة سفاراتها، وتطالبها بتقييم الأوضاع في الدول التي تتواجد فيها، ولا سيما فيما يتعلق بتوضيح ما الذي تحتاجه أسواق هذه الدول في الخطط الخمسية والعشرية القادمة، وحجم الصادرات التي تلقتها الدولة المستهدفة من تركيا، بل والقيام بفتح قنصليات جديدة على غرار ما يحدث في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء. كما تفتقر إيران إلى وجود مستشارين تجاريين لها في العديد من البلدان حول العالم ومنها سوريا، بل إنها قامت خلال الفترة الأخيرة بإعادتهم من الدول التي كانوا يخدمون فيها، نظراً لعدم القدرة على دفع رواتبهم على خلفية الضائقة المالية التي أسفرت عنها العقوبات الاقتصادية الأمريكية.
تراجع مستمر
ختاماً، رغم الجهود المكثفة التي تبذلها السلطات الإيرانية فيما يتعلق بتطوير العلاقات الاقتصادية مع دمشق، إلا أنه ليس من المتوقع أن ينمو معدل التبادل التجاري بين إيران وسوريا خلال الفترة القادمة بشكل كبير، نظراً لبعض العقبات الهيكلية سالفة الذكر. لذا، لن تستطيع طهران التفاعل مع دمشق في مجالات بعينها مثل منتجات الغذاء والملابس والأجهزة المنزلية، لكن يمكن التعامل معها بشكل نسبي في بعض القطاعات الأخرى مثل الصناعات الثقيلة والبتروكيماويات، والطاقة والكهرباء وتكنولوجيا المعلومات، والمنظفات، والصناعات الصحية، أو التعويل على فكرة الإنتاج المشترك، مما يُمكّن الطرفين من تأسيس علامة تجارية مشتركة مميزة.