لا تقتصر التحالفات على الدول باعتبارها الوحدات التقليدية في بنية النظام الدولي، يمكنها إبرام أنماط متنوعة من العلاقات. إذ كشفت تجربة الفاعلين من دون الدولة في المنطقة عن وجود علاقات فيما بينها ربما أصبحت تتجاوز العلاقات التي تؤسسها الدول الطبيعية. وتشكل هذه الظاهرة للتحالفات ما بين الفاعلين من دون الدولة في المشهد الإقليمي مصدر تهديد مستقبلياً، بالنظر إلى أنها تشكلت في المنطقة كظاهرة مُهدِّدة ومؤشر لعدم الاستقرار بالأساس، وأغلبها ينتمي إلى فئة المليشيات وجماعات الجريمة المنظمة والتنظيمات الإرهابية.
تحالفات حتمية
من حيث الأدوار، يمكن التمييز الهيكلي بين الأصناف المختلفة من الكيانات التي تندرج تحت مسمى “الفاعلين من دون الدولة”، وفي المقدمة منها وكلاء إيران الإقليميين، الذين تجمعهم قواسم متشابهة إلى حد التطابق الهيكلي الذي يضم واجهة سياسية يمكنها ممارسة الدور السياسي، وأذرعاً عسكرية (كتائب – مليشيات – فصائل)، يجمعها الراعي الواحد وهو إيران، والهدف الواحد، على نحو يفرض عليها حتمية التحالف، أو ما يمكن وصفه بـ”التحالفات الصلبة”.
ويمكن الإشارة إلى أن “الحشد الشعبي” في العراق يشكل أبرز نموذج للتحالف بين الفاعلين من دون الدولة داخل دولة واحدة تتجسد فيه كافة هذه المظاهر. وبحكم هذه القواسم وطبيعة الروابط والتشكل، يمكن القول إنها تكونت بالأساس في مواقع مختلفة لتشكل تحالفاً فيما بينها لإنضاج المشروع الإقليمي الإيراني، فضلاً عن تقديم الدعم لطهران. فعشرات المليشيات المسلحة في العراق التي تلعب دوراً مذهبياً، وتنخرط في التصعيد المسلح ضد خصوم طهران، مارست في الوقت ذاته دور الداعم الاقتصادي، حيث أدارت سوقاً سوداء للعملة وعمليات لغسيل الأموال، وأسست شركات ومشروعات لصالح الحرس الثوري، كما أشرفت على ما يمكن تسميته بـ”سلاسل التوريد الإيرانية” إلى باقي الوكلاء والمناطق. وتكشف قرارات العقوبات وفق بيانات وزارة الخزانة الأمريكية كماً هائلاً من هذه العلاقات.
هناك صيغة أخرى، تتعلق بما يمكن تسميته بـ”التحالف التكافلي” تسود بين هذا النمط من الوكلاء. فعلى سبيل المثال، يقول عسكريون لبنانيون سابقون أن أفواجاً متتالية من عناصر المليشيا “الحوثية” في اليمن استُقدِمت إلى معسكرات التدريب في لبنان، وكانت هناك تصريحات متشابهة تناقلتها تقارير عراقية ويمنية محلية تشير إلى ذلك، بينما كشفت قيادات من نظام الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح، عن أنه في فترة تحالف “الحوثي – صالح”، كانت المليشيا ترسل عناصر إلى مناطق الصراعات للتدريب على حروب العصابات الميدانية، يليها الترقي إلى التدريب على العمليات العسكرية النوعية لعناصر من النخبة “الحوثية” مثل إطلاق الصواريخ وتشغيل الدرونز. ومن المؤكد أن الصيغة التكافلية تنطوي على الدعم الاقتصادي، فالمليشيات الأغنى والأكثر ثراءً يمكنها تقديم الدعم الاقتصادي في الإطار التكافلي لنظيراتها التي تحتاج إلى هذا الدعم، ويعتقد أيضاً أن المليشيا “الحوثية” في اليمن استفادت من هذا الأمر حتى تشكلت دورتها الاقتصادية الحالية.
تحالفات عابرة
وهى التحالفات المؤقتة التي تجمع بعض الأطراف في إطار المصالح المتبادلة في بعض الأحيان، وفي مساحات معينة، وأقرب نموذج إلى هذه الصيغة هو المجموعات الموجودة في جنوب ليبيا، حيث تكشف خرائط انتشار المجموعات المسلحة والمرتزقة وبعض الفصائل المتمردة وجماعات التهريب عن أن خطوط الحركة من وإلى الجنوب الليبي تطابق خطوط التهريب المختلفة التي تعتمد عليها جماعات محلية وخارجية، كخطوط تهريب البشر، وخطوط نقل وتجارة الأسلحة، وتهريب المخدرات، وخطوط تحركات التنظيمات الإرهابية، وهو ما يعكس وجود شبكة مصالح مشتركة تجمع هذه الفواعل وبعضها البعض تفرض عليها وضع قواعد مشتركة أيضاً وحاكمة للعلاقة فيما بينها، بحكم أنها تتمدد في مساحة “اللادولة” التي تغلب عليها الفوضى الأمنية.
لكن مع تغير المصالح، أو تقلبها، أو ظهور متغير هيكلي ما مع تطور بعضها، مثل تنامي شبكات التنظيمات الإرهابية في سوريا، يمكن التمييز بين هذه التنظيمات. ورغم أن ذلك لم يكن يمنع الاعتماد المتبادل في مرحلة ما، لكن مع نمو قدرات بعضها مثل “داعش”، تتغير توازنات القوى، حيث يتجه بناءً على ذلك إلى السيطرة ومحاولة فرض قواعد اللعبة لصالحه. وقد يحدث أيضاً تغير في طبيعة البيئة التي تتمدد فيها هذه الفواعل، تعيد تشكيل التحالفات فيما بينها، أو أن يطرأ متغير جديد على الساحة الخارجية، حيث وفّر وجود تنظيم الإخوان المسلمين في السلطة، في بداية الموجة الأولى من الثورات العربية، غطاءاً لبعض الفواعل على حساب الأخرى، وبتراجع قوة التنظيم تراجعت بالتبعية قوة هذه الفواعل. وفي المحصلة الأخيرة يمكن وصف التحالفات في هذه الحالة بـ”التحالفات المرنة” أو المتغيرة.
محددات رئيسية
يترتب على هذه التحالفات، بحسب طبيعتها، العديد من المُهدِدات بالنظر إلى أربعة محددات رئيسية وهى:
1- أدوار الفاعلين من دون الدولة: تعكس الأدوار التي تقوم بها هذه الجماعات مخاطرها على الدولة. ففي الكثير من حالات الصراع، برز ما يسمى بظاهرة “المليشيا الدولة” كما في حالة “الحوثيين” في اليمن، أو “حزب الله” في لبنان، أو “الحشد الشعبي” في العراق، بينما الدولة الحقيقية إما انهارت كما في حالة اليمن، أو أصبحت ضعيفة وهشة كما في حالة لبنان، بحكم وجود هذه الفواعل وتطلعها إلى لعب الدور البديل والقيام بالوظائف التي تقوم بها الدولة، من الوظائف المحدودة كتقديم الدعم والخدمات وحتى المساهمة في تشكيل الحكومات وصولاً إلى إعلان قرار الحرب.
واللافت في هذه الظاهرة، أن هذه الفواعل وصلت إلى درجة تماهمت معها الحدود الفاصلة بين كونها فواعل وبين الدولة. فعلى سبيل المثال، في كافة حالات وكلاء إيران، فإن الفاعلين من دون الدولة إما شركاء في حكومات كما في حالتى لبنان والعراق، أو يقودون حكومات الأمر الواقع، كما في حالتى “حماس” في قطاع غزة، و”الحوثيين” في صنعاء. وهذه الأدوار تتنامى باتساع نطاق شبكات التحالف فيما بين هذه الأطراف، للدرجة التي أصبح مفهوماً في سياقها أن شن حرب إسرائيلية على قطاع غزة يستدعي القلق من احتمال انخراط “حزب الله”، وليس لبنان، فيها.
2- التداعيات الناجمة عن هذه الأدوار: أصبحت بيئة الصراعات والأزمات الإقليمية بمثابة “مَفرَخة” طبيعية قابلة طيلة الوقت لإنتاج هذه الأنماط من الفواعل المتعددة، وبالتبعية إبرام التحالفات التي تأخذ شكل العلاقات الدبلوماسية إلى حد تبادل السفراء، إن جاز التعبير، وتوقيع بروتوكولات التفاهم وتبادل الصفقات التجارية بين الموانئ وعبر البوابات الحدودية التي تشرف عليها هذه المجموعات بحكم الهيمنة على الحدود، وهى الأدوار والوظائف البيروقراطية التي تقوم بها الدول، على نحو أثر بطبيعة الحال على مناعة الدولة التي سيكون من الصعب استعادتها في المناطق التي هيمنت عليها تلك الفواعل.
3- الأثر الانتشاري العابر للحدود: وهو ما يبدو جلياً عند تقييم مواقف هذه الفواعل تجاه العملية السياسية، لاسيما مشاهد الانتقال السياسي في كل من العراق وليبيا خلال العام الجاري، وتحديداً موقف الفواعل من الانتخابات. ففي العراق، تعترض فصائل “الحشد” على النتائج. وفي ليبيا، هناك تهديدات بالأساس للعملية الانتخابية. وبالتالي حتى في ظل غياب روابط ما بين المليشيات في العراق ونظيراتها في ليبيا، لكن هناك “أثراً انتشارياً” بحكم الخبرات التي تطلقها مجموعة من الفواعل وتعيد إنتاجها فواعل أخرى في مناطق مختلفة.
4- غياب نظام الرقابة والمساءلة: وهى نقطة ذات دلالة في مسار صعود ظاهرة الفاعلين من دون الدولة. فبصفة عامة، يمكن القول إن المليشيات لا تخضع إلا لقوانينها الخاصة، أو القانون المُشَغِّل لها، وبالتالي لا تخضع لسلطة الدولة، إذا كانت الأخيرة موجودة بالأساس. إذ لم يخضع “حزب الله” للمساءلة عن دوره في سوريا، أو حتى إذا كان ذلك يتماشى مع مصالح لبنان وأمنه القومي من عدمه. ولم تخضع المليشيا العراقية للمساءلة حول الانتهاكات ذات الطابع المذهبي التي ارتكبت خلال مرحلة الحرب على “داعش”. لكن أيضاً من الأهمية بمكان النظر إلى أن العديد من القوى الدولية تفرض نوعاً من المسئولية أو المحاسبة على هذه التنظيمات، فتضعها على اللائحة السوداء، أو تفرض عقوبات على أرصدتها وتقوم بتتبعها عبر المسارات المالية، ووصل الأمر إلى حد فرض عقوبات على أشخاص فقط داخلها أو ذوي صلة بها، إلا أن النقلة النوعية في هذا الصدد التي تكشف عنها العقوبات تتعلق بتمدد شبكات هذه الفواعل في إطار التشابكات القائمة فيما بينها.
شبكة مصالح
في النهاية، يمكن القول إن التحالفات ما بين الفاعلين من دون الدولة شكلت في حالات التحالفات الصلبة عامل قوة لهذه الكيانات وللمشروع الذي تعمل في إطاره. ولم تعد هذه الفواعل تواجه تحديات بحكم قدرة التحالف على تقديم الدعم والإسناد فيما بين أعضاءه، وأصبحت هذه الكيانات شبه مستقلة في دول الأزمات والصراعات. وفى حالة التحالفات العابرة، شكلت هذه الفواعل دورة مصالح بين أطراف مختلفة قائمة على تبادل المنافع، والاستفادة قدر الإمكان من عوائد حركة التجارة والتهريب غير المشروعة، وأصبح من الصعب استهداف هذه التكتلات أيضاً. وعلى المديين المتوسط والبعيد، فإن تنامي أدوار هذه التحالفات سيراكم المخاطر والمُهدِدات على الدول التي تستهدفها سواء من الداخل أو الخارج.