منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وتفجر الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالى والشيوعى وتفاقم الاستقطاب الدولى بينهما تعرضت منطقة الشرق الأوسط لتيارين متضادين حكما التفاعلات السياسية فى المنطقة، أولهما أصيل ينبع من المنطقة العربية وهو التيار العروبى الذى تُرجم بداية فى تأسيس الجامعة العربية التى جعلتها بنيتها لاعتبارات عربية ودولية غير قادرة على فرض توجهاتها على مسار التفاعلات، بحيث إن المنظومة الأمنية المتميزة التى جسدتها معاهدة الدفاع المشترك ١٩٥٠ لم تُفض إلا إلى محاولات غير مكتملة لمأسسة الأمن القومى العربى، كما حدث فى ستينيات القرن الماضى عندما دعا الرئيس عبد الناصر لقمة عربية للتصدى لمحاولات إسرائيل لتحويل مجرى نهر الأردن، عُقدت بالفعل فى يناير١٩٦٤ونجحت فى إنشاء قيادة عسكرية عربية موحدة، لكن الاعتبارات القطرية أفرغت لاحقا هذه المحاولة الجادة من مضمونها، وإن كانت الإنجازات التاريخية لحركات التحرر العربية بقيادة مصر كما فى الجزائر وجنوب اليمن قد عوضت هذا القصور، كما أن السنوات الواقعة بين هزيمة يونيو١٩٦٧وحرب أكتوبر١٩٧٣مثلت ذروة النجاح للمنظومة الأمنية العربية، ويمكن القول إن الحرب العراقية الإيرانية (١٩٨٠-١٩٨٨) قد قدمت لاحقا نموذجا آخر ناجحا لهذه المنظومة وإن شابه الموقف السورى الرسمى المؤيد لإيران فى تلك الحرب، وبعد ذلك لا يمكن الحديث عن نماذج جماعية أخرى لتحالفات عربية لأن التحديات اللاحقة للأمن العربى كغزو الكويت١٩٩٠والغزو الأمريكى للعراق ٢٠٠٣ إما أنها ووجهت بتحالفات دولية لعبت فيها دول عربية أدوارا بقيادة دولية كما فى حالة غزو الكويت، أو أنها لم تواجه أصلاً كالغزو الأمريكى للعراق. أما التيار الثانى الذى أثر فى التفاعلات السياسية فى المنطقة فقد نبع من خارجها، وبالذات من التحالف الغربى الذى تبلور عقب الحرب الثانية بهدف مواجهة القوة الصاعدة للاتحاد السوفيتى على رأس المعسكر الاشتراكى، وكان الهدف الأساسى لهذا التحالف فيما يتعلق بالمنطقة العربية هو إلحاقها بسلسلة الأحلاف الغربية، وتمثلت المحاولة الأولى فى هذا الصدد فى مشروع قيادة الشرق الأوسط ١٩٥١ الذى أفشلته الحكومة الوفدية آنذاك فى مصر فى إشارة مبكرة للموقف المصرى المضاد لفكرة الارتباط بأحلاف عسكرية أجنبية، ثم تكررت المحاولات بعد ثورة يوليو١٩٥٢، فاستطلعت الإدارة الأمريكية موقف القيادة المصرية ولم تجد إلا الجواب ذاته، وهو أن الاتحاد السوفيتى لا يمثل التهديد الرئيسى للأمن المصرى والعربى، وأن التهديد معروف وقابع على الحدود، وإزاء هذا الفشل تحولت الجهود الغربية إلى النظام العراقى الموالى للغرب آنذاك، ونجحت فى الحصول على موافقته على ميثاق يتحالف العراق بموجبه مع تركيا العضو فى حلف الأطلنطى كمقدمة لحلف شرق أوسطى أوسع نطاقا يربط المنطقة بالتحالف الغربى، وكانت الخطة أن يتوالى انضمام دول عربية بعينها معروفة بتوجهاتها المواتية للتحالف الغربى، ورأى عبد الناصر فى هذا تطورا خطيرا يقوض مفهوم الأمن العربى فشن عليه حملة دبلوماسية وإعلامية ضارية نجحت بمؤازرة دول كالسعودية واليمن وسوريا لاحقا فى إجهاض الحلف بحيث لم تنضم إليه أى دولة عربية أخرى، بل إن العراق نفسه غادره فى ١٩٥٩بعد ثورة ١٩٥٨، وتكررت الخبرة ذاتها مع مشروع الرئيس الأمريكى أيزنهاور فى ١٩٥٧الذى بناه على أساس أن خروج بريطانيا وفرنسا من الشرق الأوسط بعد هزيمتهما فى العدوان على مصر ١٩٥٦ سيخلق فراغا فى الشرق الأوسط يمكن أن تملأه الشيوعية، ولذلك فإن الولايات المتحدة حاضرة بالمساعدات الاقتصادية والعسكرية لمواجهة هذا الخطر، ونجح عبدالناصر بالطريقة ذاتها فى تطويق ما عُرِف بمشروع أيزنهاور، وكان شديد الحساسية لفكرة الأحلاف الأجنبية بحيث إنه نظر فى ١٩٦٦ للدعوة لقمة إسلامية باعتبارها امتدادا لمحاولات ربط المنطقة بالغرب على أساس أن حكام كبريات الدول الإسلامية آنذاك كتركيا وإيران وباكستان كانوا موالين للغرب، وهكذا يمكن القول إن جميع محاولات إنشاء أحلاف شرق أوسطية قد باءت بالفشل فى مرحلة المد القومى العربى. وإذا كان إخفاق محاولات بناء تحالفات شرق أوسطية يبدو طبيعيا فى هذه المرحلة فإن اللافت هو إخفاقها حتى فى مرحلة عانى فيها النظام الإقليمى العربى من تراجع وتفكك واضحين، وهو ما يمكن أن يكون دليلا على أن الفكرة الشرق أوسطية أصلا بلا أساس لأنها مفهوم جغرافى يضم دولاً متباينة فيما بينها وتنطوى تفاعلاتها فى كثير من الأحيان على مصادر للصراع، وتوضيحا لما سبق، فقد مهد السلام المصري – الإسرائيلى، ومن بعده اتفاقية أوسلو ١٩٩٣بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، والمعاهدة الأردنية – الإسرائيلية ١٩٩4الطريق لإحياء الحديث عن الشرق أوسطية فعُقِدت المؤتمرات الاقتصادية الشرق أوسطية، الأربعة من ١٩٩٤إلى١٩٩٧فى الدار البيضاء وعمان والقاهرة والدوحة على التوالى ثم توقفت بلا رجعة دون أن تُحْدث تغييرا ملموساً فى نموذج التفاعلات بالمنطقة، وطرح الرئيس الأمريكى جورج بوش الابن مشروع «الشرق الأوسط الكبير» عقب غزو العراق ولم يُفض إلى أى شىء والأهم أن ترامب نقل الحديث من مجالات التعاون والتحديث الاقتصادى والمعرفى والتطوير الديمقراطى إلى الحديث الصريح عن الأحلاف العسكرية، وفى قمة الرياض الأمريكية – العربية -الإسلامية فى مايو٢٠١٧خلص البيان الختامى إلى إعلان نوايا بتأسيس تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجى على أن يُستكمل التأسيس وإعلان الدول المشاركة خلال ٢٠١٨، ورحب البيان باستعداد عدد من الدول الإسلامية للمشاركة بتوفير قوة احتياط قوامها٣٤ ألف جندى لدعم العمليات المضادة للإرهاب، غير أن شيئا عمليا لم يحدث بدليل تواتر الحديث الآن عن ناتو شرق أوسطى يُقال إن الإعداد يجرى له على قدم وساق، فكيف ننظر إلى هذا الأمر على ضوء الخبرة الماضية، والمتغيرات الجديدة؟
نقلا عن الأهرام