ربما تفرض رئاسة فرنسا لمجلس الاتحاد الأوروبي، والتي بدأت في أول يناير الجاري وتستمر لمدة ستة أشهر، بعض التداعيات والانعكاسات المحتملة على منطقة الشرق الأوسط، لاسيما في ظل السياسة النشطة التي تبناها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تجاه قضايا المنطقة، ومحاولة التأسيس لدور فرنسي، وأوروبي، أكبر فيها بعيداً عن السياسات الأمريكية، فضلاً عن الترابط بين قضايا المنطقة ومصالح وأمن الدول الأوروبية سواء عبر التهديدات الأمنية والإرهابية أو حتى عبر تدفق اللاجئين بأعداد هائلة على النحو الذي شكل ضغطاً كبيراً على المجتمعات الأوروبية ومواردها.
أهداف رئيسية
أعلن الرئيس ماكرون، في 9 ديسمبر الفائت، عن عدد من الأهداف الرئيسية التي يسعى إلى تحقيقها أثناء رئاسة فرنسا للاتحاد الأوروبي. بعض هذه الأهداف يتصل، بشكل أو بآخر، بالسياسة الفرنسية في منطقة الشرق الأوسط. فالرئيس الفرنسي أكد أن بلاده تريد وضع إطار للسيادة الاستراتيجية الأوروبية، والذي من وجهة نظره “يرسخ أننا نحن الأوروبيين، سواء كنا أعضاءً في حلف شمال الأطلسي أم لا …. نواجه تهديدات مشتركة ولدينا وأهداف مشتركة”. ولا يمكن إغفال أن تأكيد ماكرون على مفهوم السيادة الأوروبية يعني، بدرجة ما، تنشيط السياسة الخارجية الأوروبية في مناطق المصالح الحيوية لأوروبا، وفي مقدمتها منطقة الشرق الأوسط.
كما أن تركيز الرئيس الفرنسي على أهمية تطوير العلاقات الأوروبية- الأفريقية، والعمل على إعادة تأسيس عقد جديد اقتصادي ومالي مع أفريقيا، وخاصة مع انعقاد قمة بين الاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي، في 17 و18 فبراير القادم في بروكسل، سيُكسِب السياسة الفرنسية تجاه الشرق الأوسط المزيد من الزخم، لأن هناك تماساً جغرافياً بين الشرق الأوسط وأفريقيا، وبالتالي تعد بعض دول المنطقة مدخلاً هاماً لتطوير العلاقات الفرنسية- الأفريقية.
وثمة هدف آخر أشار إليه الرئيس الفرنسي، ويتعلق بمراقبة الحدود. إذ أوضح أن حماية الحدود “شرط أساسي لأمن الأوروبيين ومواجهة تحديات الهجرة وتجنب المآسي التي عشناها”. وطرح عدداً من الآليات لذلك ومنها إصلاح منطقة شينغن، وكذلك التعاون والعمل المشترك مع دول المصدر ودول العبور لمكافحة الإتجار بالبشر وتجنب تدفقات الهجرة، وهى الآلية التي تستدعي حتمية التعاون مع دول الشرق الأوسط.
تأثيرات محتملة
لا يمكن لباريس، في ظل رئاستها للاتحاد الأوروبي، تجنب التعاطي مع الشرق الأوسط. ومن هنا، فإن ثمة انعكاسات محتملة لرئاسة الاتحاد الأوروبي على السياسة الفرنسية تجاه المنطقة، يتمثل أبرزها في:
1- استعادة المكانة الإقليمية والدولية: يحتمل أن تؤدي رئاسة فرنسا للاتحاد الأوروبي إلى تعزيز محاولات استعادة المكانة في منطقة الشرق الأوسط، وهو أمر يتسق مع رؤية الرئيس الفرنسي. فمنذ وصوله إلى السلطة، يتبنى ماكرون خطاباً قائماً على ضرورة إعادة فرنسا إلى مركز الشئون العالمية، رغم العقبات العديدة التي تواجهها في هذا السياق.
2- أولوية قضية اللاجئين والمهاجرين: من المرجح أن تحتل هذه القضية مكانة متقدمة على أجندة الرئاسة الفرنسية للاتحاد الأوروبي، لاسيما أن تدفق اللاجئين بصورة هائلة، وأغلبهم من دول الشرق الأوسط، كان له تداعيات عديدة على المجتمعات الأوروبية. ولذا أكد الرئيس الفرنسي، في أكثر من مناسبة، على ضرورة مواجهة قضية الهجرة. إذ قال، في اجتماع مع مجموعة “فيشجراد” بالمجر في 14 ديسمبر الفائت، أن “فرنسا وهذه المجموعة من الدول الأكثر رفضاً في الاتحاد الأوروبي لمسألة دخول المهاجرين، تتفق على إصلاح شنغن بعمق وتحسين حماية الحدود الخارجية، وكذلك على عودة غير المؤهلين للحصول على اللجوء إلى بلدانهم”. وهذه الموضوعات سبق لماكرون أن ذكرها من بين أولويات رئاسة فرنسا للاتحاد الأوروبي.
ومن ثم، ربما يعمل الرئيس الفرنسي، خلال فترة رئاسة باريس للاتحاد، على تشكيل توافقات بين الدول الأوروبية حول ملف الهجرة والتوصل إلى آلية محددة مع دول الشرق الأوسط لضبط هذا الملف. علاوة على ذلك، يحتمل أن يستخدم ماكرون قضية الهجرة كورقة مهمة في مواجهة منافسيه في الانتخابات الرئاسية الفرنسية المزمع عقدها في أبريل القادم.
3- تخفيف التوترات مع الجزائر: تصاعدت حدة التوتر بين فرنسا وعدد من دول المنطقة، وفي مقدمتها الجزائر، خلال الشهور الماضية، وخاصة بعد تصريحات الرئيس ماكرون التي شكك خلالها في “إمكانية وجود أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي للبلاد”، وهو ما دفع الجزائر إلى الإعلان، في 2 أكتوبر الماضي، عن استدعاء سفيرها لدى فرنسا للتشاور، كما انتقدت تصريحات الرئيس الفرنسي.
ولكن مع ذلك، حرصت باريس على تجاوز الأزمة من خلال توجيه إشارات إيجابية حول رغبتها في فتح صفحة جديدة للعلاقات، ولعل هذا ما أكدت عليه زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان إلى الجزائر، في 8 ديسمبر الفائت، ولقاءه بالرئيس الجزائري عبد المجيد تبون. وفي هكذا سياق، يمكن القول إن فرنسا ستكون حريصة أثناء رئاستها للاتحاد الأوروبي على تهدئة التوترات مع الجزائر وغيرها من دول المنطقة.
4- المراهنة على دور الوساطة: قد تمنح رئاسة الاتحاد الأوروبي مساحة أكبر للتحرك في ملفات منطقة الشرق الأوسط، وتعزيز دور الوساطة الفرنسية في بعض هذه الملفات على غرار الملف اللبناني وكذلك الملف النووي الإيراني. فمن جهة أولى، برز الدور الفرنسي في لبنان كدور هام في حلحلة الأزمة الداخلية، ويظل هذا الدور محورياً في المرحلة القادمة في ظل استمرار الأزمة السياسية والاقتصادية وكذلك العقبات التي تواجه حكومة نجيب ميقاتي وتهدد بإسقاطها. ومن جهة ثانية، لا تزال فرنسا مهتمة بالتوصل إلى اتفاق نووي جديد مع طهران، باعتبار أن ذلك يمكن أن يساهم في تقييد أى تطور في القدرات النووية الإيرانية يجعل من أى اتفاق بلا قيمة. وقد كان لافتاً أن فرنسا حرصت، في 31 ديسمبر الفائت، على التنديد بتجربة إطلاق صاروخ إيراني إلى الفضاء، مشيرة إلى أنها “تمثل انتهاكاً لقوانين الأمم المتحدة”، وذلك بالتوازي مع استئناف الجولة الثامنة من مفاوضات فيينا بين إيران ومجموعة “4+1” بمشاركة أمريكية غير مباشرة.
5- دعم المصالح الاقتصادية في المنطقة: سوف تسعى باريس، في الغالب، إلى توظيف رئاسة الاتحاد الأوروبي من أجل دعم مصالحها الاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط عبر تطوير صيغ أوسع للتعاون والشراكة بين أوروبا والشرق الأوسط. فالمنطقة تتضمن عدداً من الفرص الاقتصادية الهامة بالنسبة لفرنسا، إذ تعد دول المنطقة واحدة من أهم مستوردي الأسلحة الفرنسية، كما عملت الشركات الفرنسية خلال السنوات الماضية على تطوير علاقاتها الاقتصادية مع دول المنطقة، على غرار العراق والمغرب والجزائر، ولعل هذا ما يفسر حرص باريس على تخفيف حدة التوترات مع الأخيرة.
6- ممارسة ضغوط على تركيا: رغم الهدوء النسبي في العلاقات التركية- الفرنسية خلال الشهور الأخيرة، فقد ظل الصراع هو النمط المهيمن على العلاقات بين الدولتين نتيجة لعدد من العوامل ربما أهمها توظيف أنقرة لورقة اللاجئين كأداة للضغط على الدول الأوروبية، بما فيها فرنسا، ومعارضة الأخيرة الواضحة لانضمام تركيا للمنظومة الأوروبية، علاوة على الخلاف حول السياسة التركية في منطقة الشرق الأوسط، حيث انتقدت فرنسا التدخل العسكري التركي في سوريا وليبيا في أكثر من مناسبة خلال الفترة الأخيرة. وعليه، قد تلجأ فرنسا، أثناء رئاستها للاتحاد الأوروبي، إلى بناء مواقف أوروبية ضاغطة على أنقرة يمكن عبرها تطويق النفوذ التركي.
توجهات مستقرة
ختاماً، فإن التوجهات العامة للسياسة الفرنسية في منطقة الشرق الأوسط لن تتغير كثيراً بعد تولي باريس رئاسة الاتحاد الأوروبي، وكل ما هنالك أن هذه السياسة ستكتسب المزيد من الزخم، في ظل طموحات الرئيس ماكرون لاستعادة المكانة الفرنسية على الساحة العالمية، فضلاً عن اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الفرنسية، وهو ما قد يدفع الرئيس الفرنسي إلى البحث عن مكاسب خارجية تعضد من فرصه في مواجهة منافسيه في الانتخابات.