أصدر مجلس الأمن الدولي، في 30 يونيو الفائت، القرار 2690، والذي أنهى بمقتضاه مهمة بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، والتي تعرف اختصاراً بـ”مينوسما”. وبموجب القرار، فإن البعثة سوف تقوم بإنهاء مهامها وتسليمها إلى السلطات المالية في غضون ستة أشهر، أى حتى 31 ديسمبر القادم. ورغم أن هذا القرار جاء بناءً على طلب من الحكومة المالية، إلا أنه لا يعكس حالة من الاستقرار على المستوى الأمني داخل مالي، التي ما زالت تواجه تهديدات لا تبدو هينة من جانب التنظيمات الإرهابية، على نحو يعني أن هذه الخطوة سوف تفرض تأثيرات مباشرة على أمن واستقرار مالي ودول الجوار، لا سيما ليبيا.
أسباب عديدة
يمكن القول إن ثمة جملة من الأسباب التي دفعت مجلس الأمن الدولي إلى إنهاء مهمة بعثة “مينوسما” في مالي، ومن أهمها:
1- ضغوط مستمرة من جانب باماكو: وجّهت الحكومة المالية انتقادات قوية للبعثة خلال الفترة الماضية، حيث قال وزير الخارجية المالي عبد الله ديوب، في خطاب أمام مجلس الأمن الدولي في 16 يونيو الفائت، أن البعثة فشلت في تنفيذ مهمتها، وطالب المجلس بسحبها في أسرع وقت. وقد تدهورت العلاقات بين باماكو والبعثة الأممية بشكل كبير منذ أن سيطر العسكريون على السلطة في عام 2020، حيث شنت الأمم المتحدة بدورها حملة نددت فيها بالسياسة التي تتبعها السلطات المحلية في التعامل مع التحركات التي يقوم بها الجنود الدوليون ضمن البعثة، وعدم تقديم ما يلزم لحمايتهم من الهجمات التي تعرضت لها البعثة، على نحو كان له دور رئيسي في مقتل 174 جندياً من البعثة منذ عام 2013.
ووصل التوتر إلى ذروته مع القرار الذي اتخذته مالي، في 6 فبراير الماضي، بطرد رئيس قسم حقوق الإنسان في البعثة غيوم نغيفا-أتوندوكو أندالي، حيث اعتبرته السلطات “شخصاً غير مرغوب فيه” و”عليه مغادرة الأراضي الوطنية في غضون 48 ساعة”، واتهمه المجلس العسكري الحاكم بـ”ارتكاب أفعال مزعزعة للاستقرار وتخريبية”. ودفع ذلك المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان فولكر تورك إلى التعبير عن “أسفه الشديد” إزاء هذا القرار، مضيفاً: “أشعر بالاضطراب للترهيب والمضايقة اللذين تعرض لهما (غيوم نغيفا-أتوندوكو أندالي) على وسائل التواصل الاجتماعي في الأشهر الأخيرة”.
2- تراجع قدرة القوات الأممية على تنفيذ مهامها: وذلك نتيجة القيود العديدة التي فرضتها الحكومة المالية، على نحو قلّص من قدرة القوات الأممية على تعزيز دورها في ضمان الأمن وتكريس الاستقرار وحماية المدنيين داخل مالي. وقد كان لافتاً أن هذه القيود كانت أحد الأسباب التي دفعت مجلس الأمن إلى تغيير سياسته إزاء المهمة التي تقوم بها البعثة. فبعد أن كان يتجه إلى تمديد التفويض الذي منحه للأخيرة مع إجراء تعديل في بعض المهام التي تقوم بها، سارع إلى تنفيذ مطلب الحكومة المالية بسحب البعثة.
3- تزايد اعتماد مالي على “فاجنر”: تشير تقارير عديدة إلى أن تراجع دور ومهام قوات “مينوسما” في مالي توازى مع وصول عناصر مجموعة “فاجنر” إلى باماكو، بناءً على طلب من الحكومة المالية التي تسعى عبر ذلك إلى مساعدتها في مواجهة التنظيمات الإرهابية واحتواء الفوضى التي تشهدها مالي. وقد كان لافتاً أن نفوذ “فاجنر” في مالي تزايد بعد الانسحاب العسكري في الفرنسي، في منتصف عام 2022، إذ وصلت المجموعة، بدعم من جانب الحكومة المالية، إلى منطقة ميناكا في شمال شرق مالي، حيث سيطرت على قاعدة عسكرية تسلمها الجيش المالي من القوات الفرنسية.
4- توجيه رسائل إلى الداخل: يبدو أن الحكومة العسكرية في باماكو تسعى إلى توظيف موقفها من وجود القوات الأممية على المستوى السياسي، وخاصة بعد إقرار دستور جديد للبلاد، في الاستفتاء الذي أجرى في 18 يونيو الفائت، وقبيل الانتخابات الرئاسية المقبلة والمزمع إجراؤها في فبراير 2024، حيث تعمل الحكومة على الترويج لجهودها في تكريس استقلال قرارها السياسي في مواجهة ما تعتبره محاولات للهيمنة من جانب قوى دولية، وهو ما تحاول من خلاله تعزيز موقعها تمهيداً للانتخابات الرئاسية التي تتهمها قوى المعارضة بأنها تسعى عبرها إلى البقاء في السلطة.
تداعيات محتملة
من المتوقع أن يؤدي انسحاب البعثة الأممية إلى حالة من الاضطراب وعدم الاستقرار في مالي ودول الجوار، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:
1- تصاعد حدة الهجمات الإرهابية: سوف يفرض انسحاب القوات الأممية حالة من الفراغ على المستوى الأمني، وخاصة بعد انسحاب القوات الفرنسية من المنطقة، ربما لن تستطيع قوات “فاجنر” والقوات المالية ملأه، على نحو سوف تستغله التنظيمات الإرهابية، ولا سيما تنظيم “داعش”، من أجل تعزيز حضورها بالمنطقة واتخاذها قاعدة لعملياتها في منطقة الساحل والشمال الأفريقي، وخاصة أن منطقة الساحل تأتي في المراتب الأولى عالمياً بعد أفغانستان من حيث عدد العمليات الإرهابية. ومن هنا، لا تستبعد اتجاهات عديدة أن تحاول التنظيمات الإرهابية تنفيذ مزيد من العمليات الإرهابية في دول تلك المنطقة خلال المرحلة القادمة.
2- اتساع دور الشركات العسكرية الخاصة: ربما تتجه الحكومة المالية، التي قد تفشل بعد خروج القوات الأممية في السيطرة الأمنية على شمال مالي، إلى الاستعانة بشركات عسكرية خاصة، ولا سيما الشركات العسكرية الصينية، التي تسعى إلى أن تمارس دوراً أمنياً في المنطقة، خاصة أن “فاجنر” تواجه تحدي الانسحاب من منطقة الساحل في ظل التوتر المتنامي مع روسيا، بعد التمرد الذي قامت به المجموعة وتم احتواءه سريعاً في 23 يونيو الفائت.
3- تزايد احتمالات إلغاء اتفاق الجزائر: خاصة أن البعثة الأممية كانت قد دعمت بقوة توقيع اتفاق السلام والمصالحة عام 2015 في العاصمة المالية بين الحركات المتمردة في إقليم أزواد بشمال البلاد، والحكومة المركزية في باماكو، بوساطة جزائرية. ولكن بعد انسحاب البعثة هناك تخوف من احتمال تحرك بعض حركات التمرد من أجل عرقلة الترتيبات السياسية التي يجري العمل على صياغتها في مرحلة ما بعد تنظيم الاستفتاء في 18 يونيو الفائت. وقد أشارت الحركة الوطنية لتحرير أزواد إلى أن انسحاب البعثة يلغي اتفاق الجزائر بشكل ضمني.
أزمة مزمنة
على ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن مالي سوف تواجه تهديدات أمنية متصاعدة خلال المرحلة القادمة، خاصة في حالة ما إذا لم تكتمل الترتيبات السياسية الحالية بإجراء الانتخابات الرئاسية في فبراير 2024، أو إذا لم تقبل بعض الجماعات بالنتائج التي يمكن أن تسفر عنها الانتخابات، بشكل يعني أن انسحاب القوات الأممية من مالي سوف يؤثر سلباً على تطورات المشهد السياسي داخل الأخيرة.