في اللحظة التي أعلن فيها مبعوث الأمم المتحدة السويدي هانز غروندينبيرغ تجاوب “أطراف النزاع” في اليمن مع المقترح الذي تقدم به، بعد معاناة وطول انتظار، تجلت بارقة أمل جاد ربما تقود إلى خطوة تضع معها الحرب أوزارها بعد سبع سنوات عجاف، وقتلت وشردت الآلاف من اليمنيين ومزقت المجتمع على كل المستويات، وعصفت بالبنية التحتية المتهالكة، ويقيني أنها ستترك بعد توقفها جراحات عميقة ستحتاج إلى أجيال قادمة وقيادات نزيهة لتلتئم وتستعيد النسيج الوطني إلى حدوده الدنيا.
يقتضي الاتفاق الذي أعلنه المبعوث الدولي “وقف جميع العمليات العسكرية” في عموم الجمهورية لمدة شهرين، وإعادة تشغيل مطار صنعاء إلى وجهات متفق عليها، والسماح الفوري بدخول ناقلات النفط المحتجزة منذ أشهر إلى ميناء الحديدة، ثم البدء بمفاوضات بين “الأطراف” لاتخاذ الخطوات اللازمة لفتح المعابر عموماً وفي تعز على وجه الخصوص، لوضع حد للمعاناة الإنسانية القاسية التي فرضتها أيدٍ يمنية، وتسببت في تحويل حياة الناس إلى عذاب مستدام. ولعل نجاح هذه الخطوة سيسمح بفتح الخطوط البرية بين تعز والحديدة، وبين مأرب وصنعاء، وبين عدن وصنعاء عبر الضالع من الجانبين، لتختصر المسافات بين المدن.
لم يختلف كثيراً اتفاق الهدنة المعلن يوم الجمعة الماضي من مسقط، عن مضمون المبادرة التي عرضها قبل عام ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان نهاية مارس (آذار) 2021، ورفضته الميليشيات الحوثية في حينه. لكن ما جرى خلال الفترة التي تلت ذلك، أن الجميع صار يدرك تزايد حجم المخاطر التي تهدد بالمزيد من الشقاق والخلاف والانهيارات، في مرحلة تتم فيها إعادة تشكيل الخريطة الجيو – سياسية في المنطقة، مع اقتراب التوقيع على اتفاق لعودة العمل بالتفاهمات الغربية مع إيران في نطاق النشاطات النووية. وهو ما دفع الجميع للبحث عن وسيلة للتوصل إلى تهدئة تؤدي إلى إنهاء كل النزاعات المسلحة والسياسية، التي تشغل بال الحكومات الخليجية وتستنزف الكثير من الجهد والمال والوقت، وتلهيها عن خطط التنمية الكبرى التي تعتزم تنفيذها.
سيكون الجميع أمام اختبار قاسٍ للالتزام بما توصل إليه المبعوث الأممي، ومن المؤمل ارتقاء الأطراف اليمنية بمنسوبها الأخلاقي والوطني، وابتعادها عن الدخول في دهاليز لتعطيل التنفيذ. وهنا تقع المسؤولية الوطنية الأكبر على الميليشيات الحوثية، فهي قادرة بل ومطالبة بعدم محاولة الخوض في مغامرات لكسب المزيد من الوقت والأرض، وعليها أن تبرهن عن التزامها بتسهيل التوصل إلى اتفاق لفتح معبر تعز الشمالي (معبر الحوبان)، رأفة بإخوانهم الذين يعيشون كل يوم مشقة التنقل بين أجزاء المدينة، وفي نفس الوقت يجب الالتفات إلى مخاوفهم الأمنية بما يسمح بسهولة الحركة وإعادة الحياة إلى ذلك المعبر الحيوي.
ما من شك أن الدور المحوري الذي قامت به وتواصله الرياض ومسقط في الدفع بالأطراف إلى الدخول في مسار التهدئة، ثم الوقف النهائي لهذه الحرب الطويلة، التي وصفها الرئيس الأميركي بـ”البشعة”، هو محل تقدير الذين ينشدون السلام. والقيادتان في البلدين مطالبتان بمواصلة جهودهما من أجل أشقائهما في اليمن لتعود الحياة الطبيعية والاستقرار، الذي ستنعكس آثاره على المنطقة برمتها، بما يسمح بالاندماج الطبيعي التدريجي لليمن ضمن المنظومة الخليجية، وهو المسار الوحيد الذي يضمن إبعاد شبح التدخلات الخارجية مستقبلاً.
وفي الوقت الذي أعلنت فيه الهدنة التي أبهجت اليمنيين في الداخل والخارج، كانت مشاورات يمنية – يمنية تجري في الرياض على الرغم من تغيب الحوثيين والمؤتمر الشعبي العام في صنعاء، ومن غير المحتمل أن يلحقا بها. ومن واقع ما يدور حتى الآن، فإن الكثير من الحاضرين يتحدثون عن أهمية ما يُسمى بـ”إعادة هيكلة الشرعية” وتصحيح مسارها، وهاتان الجملتان صارتا تتكرران كلما ضاقت حلقات الضغط على “الشرعية”، وقد تجاوزهما الوقت، إذ كيف يمكن التعويل على الأدوات ذاتها التي تصر على مواصلة الحكم والتحكم في مصير الناس من دون أن تعترف بالأخطاء التي ارتكبتها بحق الوطن؟ ثم تقوم بمراجعة ستؤدي من دون شك إلى إبعاد كل من مارس السلطة التنفيذية خلال الأعوام السبع الماضية.
بعد سبع سنوات من الحرب، تصر “الشرعية” على التمسك بالمرجعيات على الرغم من اعتراف الجميع باستحالة تنفيذها، وأضيف إلى أن مرجعية المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية لا يمكن تحميل المجلس الانتقالي أو الحوثيين الالتزام ببنودها، فهي عبارة عن اتفاق بين قوتين سياسيتين (المؤتمر الشعبي العام الحاكم حينها واللقاء المشترك المعارض). كما أن مخرجات الحوار الوطني لا علاقة للمجلس الانتقالي بها وانقلب عليها الحوثيون، وأخيراً القرار “الورطة” 2216 الذي يعتبر الانتقالي أنه ليس مطالباً بالتعامل مع تبعاته لأنه موجه فقط ضد الحوثيين، فكيف تستقيم دعوة أطراف للالتزام بتبعات قرارات لم يقروها؟
المنطق السياسي العقلاني يستوجب البحث في آلية أو مرجعية تدير المرحلة المقبلة، وليس هناك ما هو أجدى من الالتزام بالدستور المعمول به حالياً، كوثيقة صالحة لحل النزاعات وتحديد آليات إدارة الدولة. كما يمكن استنباط آلية يشترك المجلس الانتقالي في صياغتها بعد أن صار، بموجب اتفاق الرياض، جزءاً من الشرعية، وسيسهم ذلك في إنهاء اختبائها خلف جدران “المرجعيات” التي صارت بنصوصها الحالية غير قابلة للتطبيق. ويعلم الجميع أن سبب تمسك الشرعية بها هو أنها تمثل ورقة التوت التي تغطي فسادها وضعفها، كما تمنحها مشروعية الاستمرار في تمثيل الدولة اليمنية على الرغم من كل الفشل الذي يشهد به العالم.
وسيتعين أخلاقياً ووطنياً على المجتمعين في قاعات مجلس التعاون في الرياض، الابتعاد عن الجمود في مقاربة القضايا الوطنية، وتذكر الأوضاع الإنسانية الكارثية التي يعاني منها المواطنون نتيجة الحرب. ولا يكفي القول إن الحوثيين هم المتسببون بما يحصل اليوم لأن هذا المنطق، وإن كان مقبولاً، فإنه لا يساهم في تخفيف الفقر والجوع والمرض. ولربما تمكنوا من النظر في توجيه الدعوة إلى الحوثيين للاشتراك في حوارات يمنية – يمنية مقبلة، تسبق المفاوضات السياسية، لتكون خطوة في كسر حال التوحش الذي أصاب العلاقات الإنسانية بين اليمنيين.
سيكون شهرا الهدنة اختباراً فاضحاً لقدرة اليمنيين على فتح قنوات تواصل مباشر بينهم بعد سنوات قاسية دامية. وفي الوقت نفسه، قد ترسم مشاورات الرياض ملامح المرحلة المقبلة، وكيفية إشراك كل القوى المجتمعية في بناء خريطة وطنية تشمل الجميع.
نقلا اندبندنت عربية