على الرغم من جائحة كورونا والظروف القاسية التي مرّ بها العالم العربي، فإن لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا)، لم تألُ جهداً في استطلاع آراء خبراء ومختصين ومسؤولين سابقين من مختلف البلدان العربية حول تصوّراتهم ورؤاهم بشأن المستقبل العربي في عام 2045، وتحديد هذا التاريخ بالذات لأنه يصادف مرور 100 عام على تأسيس جامعة الدول العربية (22 آذار/ مارس 1945).
وأعود مرة ثانية لطرح السؤال المحوري: هل ستبقى البلدان العربية على ما هي عليه عند هذا التاريخ، أم ثمّة تغييرات جيوبوليتكية يمكن أن تؤثر في وجودها الحالي؟ وحسب الدراسات المستقبلية، سواء بقاء الحال على ما هو عليه، أو تقارب دوله وتعاونها وتكاملها، وهو ما يستجيب للرؤية التفاؤلية التي وضعها فريق العمل المتميّز، من دون أن ننسى الإشارة إلى احتمالات سلبية قد تؤدي إلى تصدّع بعض الكيانات القائمة.
ستة أركان متصلة ومتداخلة قامت عليها رؤية العالم العربي المستقبلية، وهي: الأمن والأمان، والعدل، والابتكار، والازدهار، والتنوّع، والتجدّد الحضاري، وهي تمثّل معايير أساسية لحاجات المجتمع العربي، ولكن المهم، كيف ينظر المواطن العربي إلى هذه الرؤية؟ وأين يجد نفسه فيها؟ وما هو الدور الذي يمكن أن يؤديه وصولاً إلى تحقيق آماله بحياة حرّة كريمة؟
فالحديث عن الأمن والأمان، وهما الركنان الأساسيان في أي تنمية، يستوجب تحقيق العدل، وذلك شرط أساسي للتنمية المستدامة، لذلك فإن توفير الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية ضرورة لا غنى عنها للتنمية، وهو ما يهيئ المناخ الصحي لتحقيق الابتكار والازدهار، خصوصاً الإقرار بالتنوّع واعتماد التجدّد الحضاري.
فكيف السبيل لتحقيق ذلك؟ ابتداء، لا بدّ من الانتقال من التنظير إلى الممارسة، بالإقرار بوجود أزمة بنيوية مستفحلة تعانيها العديد من البلدان العربية.
ثم هناك أزمة الهويّة أيضاً، خصوصاً فترة ما بعد الاستعمار وتحقيق الاستقلال، حيث مارست العديد من الدول العربية نوعاً من الإقصاء والإلغاء والتهميش بحق الهويّات الفرعية، سواء كانت إثنية، أو دينية، أو لغوية، أو سلالية، أو غيرها، الأمر الذي عمّق من أزمتها.
وتمتدّ الأزمة إلى النخب الفكرية والثقافية والسياسية، التي إمّا هادنت السلطات لتنال الحظوة من دون أن تقوم بوظيفتها الانتقادية، أو انكفأت بسبب نهج بعض المعارضات التي كانت وجهاً آخر للممارسات السلبية للسلطات، فضلاً عن عدم الحصانة إزاء الاختراقات الخارجية، الإقليمية والدولية، الأمر الذي يحتاج إلى بناء جسور الثقة المجتمعيّة، وتجسير الفجوة بين أصحاب القرار والنخب، كي تمثّل قوّة اقتراح وتكامل وتضامن ، بما يحقّق أهداف التنمية. ويحتاج ذلك إلى إرادة سياسية واعية تحترم النخب وتوفّر لها كل ما يستلزم من حريّة التفكير والبحث، بما يصب في مصلحة الدولة وخطط التنمية.
العالم العربي ليس جزيرة معزولة، بل هو جزء من عالم متشابك ومتصل ومتفاعل، يتأثر ويؤثر في ما يجري حوله، ولا يزال العالم يعيش مخرجات تغييرات جيوبوليتكية شهدها في نهاية الثمانينات، والتي قادت إلى اختلال موازين القوى عالمياً بنهاية الحرب الباردة، وتحوّل الصراع الأيديولوجي من شكل إلى شكل آخر، وكان من تأثيراتها اندلاع موجة الهويّات عالمياً، خصوصاً حين انهار نظام القطبية الثنائية الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية 1946 – 1989، ليتحوّل إلى قطبية أحادية بقيادة الولايات المتحدة، لكن هذا النظام هو الآخر أخذ يترنّح بفعل احتلال أفغانستان عام 2001 والعراق عام 2003، وكان لاستعادة روسيا مكانتها منذ عام 2007 وصعود الصين ومنافستها الولايات المتحدة دوره في ذلك، لاسيّما في ظلّ الأزمة الدولية التي عصفت بالمؤسسات المصرفية العملاقة وشركات التأمين الكبرى منذ عام 2008 والتي لا تزال تأثيراتها قائمة إلى اليوم، وزادتها شدّة وعمقاً الحرب الروسية في أوكرانيا 2022.
والطريق لانبعاث الأمل لا بدّ أن يبدأ من المواطنة بأركانها الأربعة، ونعني بها: الحرية والمساواة والعدالة والشراكة والمشاركة في الوطن وفي اتخاذ القرار من دون استبعاد، أو تمييز لأي سبب كان. ولكي يتحقّق الأمن والأمان، فالعالم العربي ينتظر وقف التدهور الحاصل، وإطفاء بؤر التوتّر، وتحقيق المصالحات العربية، ونزع فتيل النزاعات البينية بأشكالها المختلفة، والبدء بالتعاون بين البلدان العربية على أساس المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، وهو ما مثّلته الورقة الواعدة لمستقبل عربي بأعمدته الستة، خصوصاً بتعزيز ما هو جامع وموحّد ومشترك، واستبعاد ما هو مفرّق ومبدّد ومباعد، وتلك أسس النهضة التنموية التي يتطلّع إليها المستقبل العربي 2045.
نقلا عن الخليج