كانت القمم العربية تلتئم تحت ضغط الصراع العربي- الإسرائيلي وبسبب الحاجة إلى دعم الشعب الفلسطيني في الدفاع عن حقوقه في أرضه ووطنه. استمرت هذه الدوافع طاغية عقوداً طويلة حتى بداية الانقسامات العربية في شأن الصراع والسلام مع إسرائيل، فتغيرت اللغة لأن المواقف اختلفت، ولم يعد الخطاب العربي هو نفسه منذ اتفاقيات كامب ديفيد، كما أن قضية الشعب الفلسطيني لم تعد في تعريفها المبسط، قضية أحمد الشقيري أو حتى ياسر عرفات.
جاءت قمة “جبهة الصمود والتصدي” التي استضافها الرئيس السوري حافظ الأسد رداً على بدء الرئيس أنور السادات اتصالاته مع إسرائيل لتؤسس شرخاً في بنية جامعة الدول العربية، في ختامها سئل وزير الخارجية السورية عبد الحليم خدام، ماذا قررتم؟ فأجاب، اتفقنا على استراتيجية موحدة! وعندما سئل مجدداً، ما مضمون هذه الاستراتيجية وفي أي اتجاه؟ غضب ودعا سائله لحضور الاجتماع.
بعد أشهر دعي إلى قمة عربية في بغداد عقدت في مناخ الانقسام الذي سيتكرس بنتيجتها، حرص صدام حسين الذي كان يستعد للانتقال من منصب سيادة النائب إلى منصب الرئيس والحاكم الأوحد على تأمين حضور أوسع تمثيل عربي ممكن، ولهذا أطلق على قمته اسم “قمة الحد الأدنى” فصارت التسمية مثار تندر واجتهادات، وانتهت القمة إلى طرد مصر ونقل مقر الجامعة العربية إلى تونس.
كانت قضية فلسطين التي قامت جامعة الدول العربية من أجلها تحولت باكراً إلى مبرر للانقلابات وإقامة النظم الديكتاتورية، البعثان السوري والعراقي جعلا منها ستاراً لسلطتهما القمعية ومنصةً لتخوين الآخرين بما في ذلك المنظمات الفلسطينية نفسها، وبات العنوان الفلسطيني مدخلاً لأي كان، ومنهم العقيد معمر القذافي كي يحجز له موقعاً نضالياً معترفاً به.
استفاد الفلسطينيون خلال هذه المعمعة، فكل القمم تقريباً حرصت على تقديم الدعم المادي والمعنوي لمنظمة التحرير الفلسطينية، وكانت دول الخليج والجزيرة العربية تتولى عموماً تنفيذ هذه المهمة، لكن القضية نفسها دخلت عالماً جديداً.
بعد أوسلو عادت منظمة التحرير إلى فلسطين، ولم يعد جائزاً التعاطي مع القضية بعنوان الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، مع ذلك، وفي المرحلة التي أعقبت أوسلو يسجل للقمة العربية إقرار مبادرة السلام التي اقترحتها السعودية، لقد بقيت السعودية حارساً للعمل العربي المشترك وللقضية الفلسطينية على رغم الإنهاك والانقسام اللذين أصاباهما لاحقاً، وألحقا بالجسم العربي جروحاً قاتلة.
كانت للعرب قضية مركزية فأصبحت لهم قضايا، لم تتضح استراتيجية خدام ولا شعارات صدام حسين إلا في غزو لبنان والكويت، ثم تمددت إيران في المشرق العربي واليمن، غزا صدام حسين الكويت فغزته الولايات المتحدة وتقاسمت مع إيران النفوذ في العراق الذي تحركت إليه وفيه جارته تركيا متوسعةً إلى سوريا ومنها إلى ليبيا وسواحل البحر الأحمر الغربية من السودان إلى الصومال.
وفي المغرب العربي تفاقم الصراع بين الجارين، المغرب والجزائر، قطعت العلاقات الدبلوماسية وأنابيب الغاز إلى أوروبا، ووجد عداء قديم حطباً إضافياً في موقدته، وإلى هناك تحركت إيران أيضاً حيث أفهمها المغرب بدعم بوليساريو، جبهة تحرير الصحراء التي تتبناها الجزائر.
وعشية القمة الجزائرية وجهت إيران تهديدات جديدة مباشرة للسعودية والإمارات فيما أوعزت للحوثيين اليمنيين بالتصعيد، وسعت لتثبيت نفوذها في العراق وسوريا ولبنان، وواصلت إثيوبيا الغارقة في مشكلاتها مشروعها على النيل متحدية ما تعتبره مصر والسودان أمنهما المائي، وأبعد من ذلك قليلاً استعرت حرب عالمية في أوكرانيا تاركة آثارها في العالم كله بمن في ذلك البلدان العربية.
كان يفترض أن تشكل مختلف هذه الوقائع جدولاً دسماً لأعمال اللقاء العربي الأبرز، لكن ما حصل كان بعيداً تماماً من الهموم والطموحات.
سعت الجزائر بحماس لعقد القمة كبلد مضيف، وحاولت استعادة الرئيس السوري بشار الأسد إلى صفوف الجامعة، على رغم الموقف العربي والدولي والسوري منه، وعندما لم تنجح رتبت مخرجاً مع النظام السوري قضى باعتذاره عن عدم الحضور، ولم تنجح الجزائر في حل خلافاتها مع المغرب جارها الأقرب، ولم تساعدها علاقاتها الوثيقة بالنظام السوري وإثيوبيا وإيران والتباين في وجهات النظر مع مصر بشأن ليبيا، في لعب دور دافع لجعل مقررات القمة أكثر وضوحاً وفعالية.
لم يكن مفهوماً أن يخلو البيان الختامي من الإشارة إلى التهديدات والتدخلات الإيرانية والتركية في المنطقة العربية بالاسم، وأن يخلو كذلك من تسمية إثيوبيا في المسؤولية عن تأزم قضية النيل، ويكتفى في المقابل بتعبير مطاط عن رفض “التدخلات الخارجية” في الدول العربية، بحجة أن هذه المسائل تناولتها قمة تونس والقمم التي سبقتها بالتفصيل والأسماء كما قال نائب الأمين العام للجامعة حسام زكي، فإذا كان هذا التفسير حجة، فقد يأتي من يقول في وقت قريب، إن القضية الفلسطينية تم تناولها أيضاً في قمة أنشاص التأسيسية، فلماذا التكرار والتفصيل؟
نجحت الجزائر في جمع الفصائل الفلسطينية عشية القمة، فكان ذلك إنجازاً على مستوى “لم الشمل” الفلسطيني سيضاف على الأرجح إلى لقاءات مصالحة سابقة بقيت مقرراتها حبراً على ورق، وأحد أسباب الوصول إلى هذه النتيجة هو ما تجنبت قمة الجزائر الإشارة إليه بالاسم عندما رفضت التدخلات الأجنبية والإيرانية والتركية، التي أسهمت في تعميق الخلافات الفلسطينية ولا تزال.
منذ زمن طويل ما عاد المواطن العربي يأمل كثيراً من اجتماعات القادة، لأنها غالباً ما تتجنب وضع الإصبع على الجرح تلافياً للانقسامات، إلا أن قمماً إقليمية عربية لم تتوان في تحديد المشكلات جميعاً بدقة وحزم، وقد فعل ذلك مجلس التعاون الخليجي في اجتماعاته وقممه، وعسى أن تنسحب مقرراته على المناخ العربي العام وصولاً إلى تكريسها في الرياض مكان الموعد المقبل لقمة الملوك والرؤساء والأمراء.
نقلا عن اندبندنت عربية