احتفالًا بمرور خمسين عامًا على العلاقات الأخوية الوثيقة بين مصر والإمارات، وتحت رعاية كريمة من كلٍ من الرئيس عبدالفتاح السيسى رئيس جمهورية مصر العربية والشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، شهدت القاهرة على مدار ثلاثة أيام مجموعة من الفعاليات الكبرى تحت عنوان شديد الدلالة هو «مصر والإمارات قلب واحد».اشتملَت هذه الفعاليات على انعقاد مؤتمر لتناوُل مختلف أبعاد العلاقات الثنائية بين البلدين، وحظيت جلسته الافتتاحية بكلمة مسجّلة من الرئيس السيسى وبمداخلات على التوالى من كلٍ من وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية دكتورة هالة السعيد، ووزير شئون مجلس الوزراء فى الإمارات محمد عبد الله القرقاوى، وأمين عام جامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط، ورئيس مجلس الوزراء دكتور مصطفى مدبولى، كما تضمّنت الفعاليات أفلامًا تسجيلية نادرة عن مسار العلاقات الثنائية المصرية -الإماراتية، هذا فضلًا عن أمسيتين غنائيتين أحياهما فنانون كبار من مصر والإمارات. تميّزت تلك الفعاليات بالانضباط الشديد ومشاركة واسعة لعدد من أبرز وجوه النخبة المصرية والإماراتية، وسمح بطرح مجموعة من الأفكار المهمة التى سوف أركّز فيها على ما تناوله اليوم الثانى للمؤتمر.
الفكرة الأولى جوهرها أن العلاقات المصرية – الإماراتية تعود جذورها إلى ما قبل قيام دولة الاتحاد، حيث كان للقوة الناعمة المصرية تأثيرها العميق فى العديد من مجالات الحياة فى الإمارات. وهنا حفلت مداخلات المشاركين بذكريات رائعة عن دور المعلّم المصرى والإعلامى المصرى والصحفى المصرى والرياضى المصرى فى تشكيل وجدان أبناء الإمارات وفى وضع اللبنات الأولى للبناء المؤسسى فى كل تلك المجالات. وكم كان مؤثرًا أن نسمع أن أبناء الإمارات كانوا يقومون بتغيير «بطاريات أجهزة الراديو» الخاصة بهم قبل خطب الرئيس جمال عبد عبدالناصر التى كانت تتدفق لهم عبر إذاعة صوت العرب،مخافة أن يتوقف الراديو قبل انتهاء الخطاب.أو أن نسمع عن رحلات السفن التى كانت تحمل لميناء دبّى كنوز مجلات الهلال وروز اليوسف وروايات نجيب محفوظ وطه حسين ومحمد عبدالحليم عبد الله فتفتح لهم أبواب «مغارة على بابا».أما حين وقف أمامنا خربجو الجامعات المصرية فى الستينيات لالتقاط صورة تذكارية تجمعهم وفى خلفية الشاشة صورتهم وهم فى ريعان الشباب بالأبيض والأسود أثناء دراستهم فى مصر- فإن تلك اللَقطة العبقرية قد هزّت المشاعر هزّا.زارت أم كلثوم إمارة أبو ظبى عام ١٩٧1وتم توثيق هذه الزيارة لحظة بلحظة فى مجلّد ضخم قدّم له وأشرف عليه محمد المُرّ.وفى العام نفسه حضر الشيخ زايد رحمة الله عليه مباراة لفريق الإسماعيلى لكرة القدم فى أبو ظبى أيضًا، وغير ذلك كثير.
الفكرة الثانية أن العلاقات المصرية -الإماراتية قائمة على أساس الاعتماد المتبادل، فكما أن مصر وضعت الأساس للنهضة الإماراتية فى المجالات السابقة وغيرها من المجالات كالمجال المعمارى والطبى..إلخ، فإن الإمارات كانت سندًا لمصر فى كل أزماتها.كان الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان عاشقًا كبيرًا لمصر إن لم يكن بالفعل عاشقها الأكبر،كان يراها «قلب العرب» الذى إن توقّف «فلن تُكتَب للعرب حياة»، وكان يعتبر نهضتها«نهضة للعرب كلهم»، وهو الذى أوصى أبناءه «بأن يكونوا دائمًا إلى جانب مصر». تبرع لمصر بالدم والمال بعد النكسة، ووقف إلى جانب مصر فى حرب تحرير أرضها عام ١٩٧٣ وأوقف ضخ النفط للغرب قائلًا «إن البترول العربى ليس أغلى من الدم العربى»، وانتقد عزل العرب لمصر بعد معاهدة السلام مع إسرائيل واعتبر أن العرب بما فعلوه إنما «عزلوا أنفسهم»، وبادر إلى ترميم المجمع العلمى بعد احتراقه وبمنتهى نكران الذات عدّ ذلك «ردًا للجميل»، أما فى المجالات التنموية بمعناها الشامل فحدّث عن دوره ولا حرج فله فى مصر المدينة والحى والقناة والمستشفى والمدرسة والمشروعات الاقتصادية التى تحمل اسمه. وعندما انتفضت مصر ضد حكم الإخوان فى عام ٢٠١٣ كان الشيخ خليفة بن زايد رحمة الله عليه فى ظهر مصر ومع شعبها كتفًا بكتف، وهذا موقف لا ينساه المصريون. وأخيرًا فإن الشيخ محمد بن زايد يؤسس مع أخيه الرئيس عبدالفتّاح السيسى لنمط من العلاقات العربية المستقرة التى تحترم الخصوصيات الوطنية وتبنى على المشترك، وفى هذا الإطار تكررت فى المؤتمر جملة إن العلاقات المصرية – الإماراتية على مدار تاريخها لم تشهد ما يعكّرها ولا عرفت نمط الحملات الإعلامية المضادة فى التعبير عن اختلاف وجهات النظر، وهذا يعود إلى أن تلك العلاقات لها أساسها الشعبى المتين.
الفكرة الثالثة ترتبط بسابقتها وهى أن الشعبين المصرى والإماراتى هما صمام الأمان الحقيقى للعلاقات الرسمية بين دولتيهما.وفى المؤتمر قيل كلام بالغ التأثير عن مظاهر الأخوّة الحقيقية بين الشعبين.ذكرت متحدثة بارزة كيف احتضنها جيرانها فى الإسكندرية التى قصدتها للتعّلم على يد عالِم اجتماعى مصرى قدير، وانتزعَت ابتسامة الحضور وهى تحكى عن هولاء الجيران الذين اعتبروها فردًا من أفراد الأسرة إلى حد أن عرضوا عليها الذهاب معهم فى العيد لزيارة”القرافة”وكانت تظن تلك دعوة لزيارة أحد المتاحف المصرية ففوجئت بها عادة أصيلة تنّم عن الوفاء وتعبّر عنه.وحكى متحدّث آخر بالغ اللطف عن ذكرياته مع زميل الدراسة الذى كان عند عودته من إجازته الصيفية يأتى محمّلا بما لذّ وطاب من الطعام ويردف قائلًا «المصريين بيفطروا فول ويتغدوا كورة ويتعشوا أم كلثوم». مثل هذا الأساس الشعبى الراسخ لا يمكن له أن يهتّز. إن الاحتفاء بالعلاقات العربية – العربية تقليد جميل كما ذكر دكتور مصطفى الفقى حبّذا لو أنه يعمّم على النحو الذى شهده الاحتفاء رفيع المستوى بالعلاقات المصرية -الإماراتية. أما عن مستقبل العلاقات بين البلدين فهناك خطط تتعلّق بتعميق التعاون فى مختلف المجالات، وهناك طموحات تتعلَق بتفعيل التواصل بين شباب البلدين فالمستقبل معهم، وهم مَن نعوّل عليهم فى تحقيق النهضة وإحداث النقلة التنموية المنشودة. تحية لكل من شارك فى فعاليات الاحتفال، فمن وراء هذا العمل جهد كبير وحب كبير لا يمكن أن تخطئهما عين أبدًا.
نقلا عن الأهرام