العرب وعصر ما بعد الأيديولوجيا – الحائط العربي
العرب وعصر ما بعد الأيديولوجيا

العرب وعصر ما بعد الأيديولوجيا



إن التأمل فى المشهد السياسى العربى يخلص الى أن بعض الدول العربية مازالت تعيش فى زمن تجاوزه الزمن بنصف قرن على الأقل، فالعالم اليوم تجاوز الأيديولوجيات المغلقة، وأصبحنا نعيش فى عالم ما بعد الأيديولوجيا، حتى إن الأحزاب الأيديولوجية العتيقة تغيرت، وانفتحت على الأفكار التى كانت تراها رجعية ومعادية، ولعل التعمق فى دراسة التطورات التى مر بها الحزب الشيوعى الصينى يؤكد ذلك. فقد نجحت الصين فى تحقيق المزيج السحرى بين الشيوعية والرأسمالية فيما صارت تطلق عليه الاشتراكية فى نسختها الصينية. ولكن، وللأسف الشديد، فإن الفكر السياسى لدى العديد من الأحزاب والقوى السياسية فى العالم العربى لا يزال مسجونا فى التجارب التاريخية البعيدة، يحلم بأن يستعيدها، أو يعيدها، والسبب الأساس فى ذلك الانغلاق الفكرى عند تلك النخب السياسية، والشيخوخة العقلية التى تمر بها قياداتها، وعدم تداول القيادة بين الأجيال، والتمسك بالشعارات لتحقيق مكاسب سياسية على حساب المصلحة الوطنية. كل ذلك قاد الى أن أصبح العديد من الدول العربية حبيسة الصراعات الأيديولوجية بين فصيلين تاريخيين هما الإخوان والشيوعيين. فمن يتابع المشهد السياسى فى العالم العربى منذ نهاية السبعينيات من القرن الماضى الى اليوم يلاحظ أن الصراع السياسى محصور بين إيديولوجيتين، تتبناهما جماعتان مغلقتان فكريا، معزولتان اجتماعيا وثقافيا، هاتان الجماعتان هما الشيوعيون والإخوان، وكلاهما عبث ومازال يعبث بمصير شعوب الجمهوريات العربية. وقد نجحت بعض القيادات السياسية العربية فى استخدام الإخوان للتخلص من الشيوعيين، سواء فى السياسة أو فى المجال الثقافى العام، خصوصا فى التعليم والجامعات، وعلى الجانب الآخر كان الشيوعيون هم البديل الجاهز لتصدر المشهد بعد فشل الإخوان، أو تصادمهم مع الدولة وخروجهم من الساحة السياسية. كانت البداية مع الرئيس الراحل أنور السادات؛ بنصيحة من قوى إقليمية كانت تناصب النظام الناصرى العداء، حيث قام بإخراج الإخوان من سجون جمال عبدالناصر للتخلص من الشيوعيين والقوميين والناصريين، خصوصا فى الجامعات وبين الشباب الذى كان فى حالة عدم رضاء عن التوجهات السياسية الجديدة للقيادة المصرية. ونجحت الخطة السياسية فى التخلص من الخصوم، وفشلت خطط الدولة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لثلاثة عقود متتالية؛ نتيجة للتطرف والعنف والإرهاب الذى مارسته جماعة الإخوان، ومن خرج من رحمها من جماعات أشد تطرفا، وأقل فطنة، وقدرة على ممارسة العمل السياسي. وبعد السادات مارست بعض الدول العربية الأخرى نفس الاستراتيجية ونجحت خطتها بصورة أفضل بكثير من التجربة المصرية. حيث اقتصرت خطة بعض هذه الدول على التعليم الجامعى، من خلال فتح أقسام للدراسات الإسلامية فى جميع الجامعات الحكومية، وتهميش التخصصات الفلسفية والاجتماعية التى كان يسيطر عليها التيار اليسارى بكل أطيافه، ثم تم فتح المجال السياسى بعد ذلك للعمل السياسى للتيارات الإسلامية الى أن أفشلوا أنفسهم وخرجوا عبر الانتخابات بخسارة تاريخية. وفى اللحظة التاريخية الحالية، ودون توظيف من قبل الدولة نجد نفس السيناريو يتكرر فى السودان حيث أصبح السودان بعد التخلص من نظام الإخوان عام ٢٠١٩ رهينا لجماعة أيديولوجية لا تختلف كثيرا عن أيديولوجية الإخوان، من حيث الانغلاق والتطرف وعدم الواقعية، وهى الأحزاب والقوى التى تدعى تبنى النهج الشيوعى أو الاشتراكي. هذه القوى الهامشية فى المجتمع، والتى لا يتجاوز وجودها مجموعة من المثقفين والمهنيين، والنقابيين ظنت أن الدولة السودانية قد سقطت فى حجرها، وأنه جاء دورها لقيادة المجتمع السودانى بعد فشل خصمهم اللدود وهم جماعة الإخوان. خصوصا ان هؤلاء السياسيين من الإخوان والشيوعيين كانوا يتنافسون على قيادات الاتحادات الطلابية، وللأسف مرت السنون ومازالوا هناك فى ساحات الجامعة يتنافسون معتقدين أن الساحة السياسية لا يوجد فيها غيرهم، وأن الدولة السودانية بكل ما يحيط بها من تحديات هى موضوع المنافسة بين أيديولوجيتين مغلقتين. إن حالة الانسداد السياسى التى يعيشها السودان حاليا تعود الى الاقتناع بأن الحراك السياسى يسير فى طريق مسدود من الجانبين، يتسابق فيه الإخوان والشيوعيون، فإذا فشل الإخوان فهذا يعنى أن الشيوعيين قد فازوا. وأن فشل الشيوعيين يعنى أن الطريق الى السلطة صار ممهدا للإخوان. حالة من الانغلاق الفكرى لم تستطع أن تدرك أن كلا من الإخوان والشيوعيين قد فشلوا فى جميع التجارب التى وصلوا فيها الى السلطة فى مختلف دول العالم العربى والإسلامى، وذلك لأن السياسة بطبيعتها لا تحتمل الانغلاق الفكرى، والوصفات الأيديولوجية الجاهزة، والحلول سابقة الإعداد والتجهيز. ونفس الأمر يتكرر فى تونس، وإن كان بدرجة أقل حدة لوجود مؤسسة الرئاسة مستقلة، وقادرة على ضبط إيقاع العمل السياسى الى الآن. فالقوى التى تسيطر على الاتحاد العام للشغل تظن أنها هى وريث الإخوان، وأن الدولة قد صارت غنيمة لها، ومن ثم لابد أن تكون هى المتحكم الأوحد فيها، ولذلك حاول الاتحاد العام للشغل فى تونس أن يفشل الرئيس قيس سعيد أكثر من مرة، ووضع العراقيل فى طريقه، وفى طريق الحكومة ليؤكد أنه هو القوة الأولى التى تتصدر المشهد. ما يحتاجه العالم العربى أن يدرك أن السياسة فى هذا العصر لا تحتمل المغامرات الأيديولوجية التى كل همها أن تثبت صحة الأفكار وليس تحقيق مصالح البلاد والعباد.

نقلا عن الأهرام