الحياة ضد الجمود ولا تعرف السكون. من يتصور أنه وصل إلى نهاية التاريخ فقد ضل فكره وفقد رشده. الهدوء الظاهرى للأشياءلا ينفى تحركها إلى مدى آخر، يمهد لفصل جديد من الحياة، للأفراد والمجتمعات والمؤسسات والعالم بأسره. خطوات بسيطة تؤخذ على مدى عقد أو أكثر تطرح نتائجها حتما بعد حين. إنها سُنة الحياة التى لا مَرد لها.
الأخبار العادية لدى كثيرين، هى فى الواقع مؤشرات على أن هناك جديدا يصيب عمق الأشياء. تداعيات الحرب الأوكرانية تنبئ بالكثير على مدى أوسع بكثير من الحرب ذاتها، إلى ساحات السياسة والاقتصاد والفكر والاستراتيجية. من هذه الزاوية يمكن أن ندرك حجم التحول الجارى صنعه فى النظام الدولى والعديد من النظم الإقليمية الفرعية. رعاية الصين اتفاق عودة العلاقات الدبلوماسية وفتح صفحة جديدة من العلاقات السعودية الإيرانية، والذى سبقته جهود وساطة ونقل أفكار واجتماعات لم يُعلن عنها فى حينه فى كل من عُمان والعراق طوال العامين الماضيين، يثبت الحقيقة العلمية والحياتية أن تكرار الأمور، أى اللقاءات وتبادل الأفكار ومساعى تقريب وجهات النظر، والبحث عن المصالح المشتركة، والابتعاد عن فخ المواجهات العسكرية لحساب الغير، واحتواء أسباب التوتر سواء المفتعلة أو الجوهرية لكلا الطرفين، ومهما تبدو صغيرة ومحدودة التأثير فى حينها، فإنها تقود إلى تغير كيفى كبير ومؤثر. عنصر الزمن هنا يلعب دوره، فلا شىء يمكن أن يبقى على حاله أبدا، والمهم هو السعى والتدبر وفك التشابكات، والبناء على أسس أكثر رسوخا وفائدة للجميع.
لا يمكن النظر إلى الاتفاق السعودى الإيرانى من زاوية ثنائية وحسب، فمجرد وجود طرف كبير كالصين، حتى وإن جاء فى الخطوات الأخيرة، فيعطى للاتفاق دلالات مهمة دوليا. فهى أول مرة تبدو فيها بكين لاعبا مؤثرا فى أزمة شرق أوسطية، كانت لفترة طويلة تخص أو يُعتقد أنها تخص البيت الأبيض وحده، وتتحرك وفقا للإشارات الواردة من واشنطن. ما حدث أثبت أن مرحلة الاحتكار الأمريكى لأزمات الشرق الأوسط قد شارفت على الانتهاء، وهو انحسار جزء منه يعود إلى قرار أمريكى بالأساس، وجزء آخر يعود إلى إرادات أخرى إقليمية ودولية منافسة.
الانحسار الأمريكى شرق أوسطيا يمتد الى حالات كان يُنظر فيها إلى أن النفوذ الأمريكى هو الحاسم وحسب. المشكلات التى تثور بين الحين والآخر بين أنقرة وواشنطن، حيث الأولى عضو مهم فى الناتو، ولا توافق على بعض توجهاته إلا بشروط تراعى مصالحها الذاتية أولا، كما هو الحال فى شروطها الخاصة بشأن الموافقة على عضوية السويد فى الحلف، جنبا إلى جنب عدم الاعتداد بالعقوبات الأمريكية المتتالية ضد روسيا، والتوجه للحصول على أسلحة روسية أو صينية بدلا من الأسلحة والطائرات التى تمتنع واشنطن عن بيعها لتركيا لأسباب مختلفة، والاتهامات التى يوجهها مسئولون أتراك للسياسة الأمريكية برعاية الإرهاب ممثلا فى مساندة القوات الكردية «قسد» فى شمال سوريا، جميعها تعبر عن حدود النفوذ الجديد لواشنطن مع أحد أهم الحلفاء التاريخيين، والذى يدرك التحولات الدولية بمنظور مختلف عن المنظور الأمريكى من جهة، ويسعى إلى مصالحه الذاتية بأكبر درجة ممكنة من جهة أخرى، فى الوقت الذى تبدو فيه السياسة الأمريكية غافلة عما يجرى حولها.
سمات الغفلة باتت واضحة فى اللا قدرة على تفهم حجم التحولات فى المجتمع الإسرائيلى بما يناقض كل الخطاب الأمريكي المُعلن، سواء الادعاء بتأييد حل الدولتين ورفض الاستيطان فى الأراضى الفلسطينية المحتلة، وأيضا حماية الكيان من نفسه. لقد كان مثيرا أن تخرج مظاهرات ترفض زيارة وزير الدفاع الأمريكى لتل أبيب، والذى وجه انتقادات خفيفة وغير مباشرة لتغيير النظام القضائى فى إسرائيل، ما يشير إلى تداعى النفوذ الأمريكى. أما الهدف المشترك بمنع قوى إقليمية من امتلاك أسلحة نووية، فالخلاف يكمن فى التفاصيل، عسكرية كانت أم دبلوماسية، وتأتى التطورات الجديدة لتضيف قيودا عملية كبرى على أى تفكير عسكرى كما تسعى إليه إسرائيل نيتانياهو.
أوروبياَ وعلى وقع الحرب الأوكرانية، فقد حسمت أوروبا أمرها، لم تعد قوة تسعى لدور مستقل. رضيت بالتبعية المطلقة لواشنطن، فى الحرب ضد روسيا وفى الاعتماد على الغاز الأمريكى بدلا من الروسى، ولا تهتم إرضاء لواشنطن حتى بمجرد التحقيق لمعرفة من فجر “نورد ستريم” لنقل الغاز، والتى استثمرت فيه دول أوروبية مختلفة ملايين الدولارات، خوفا من إثبات الاتهام الروسى لواشنطن وبلجيكا. يقابل ذلك المزيد من العلاقات الشاملة بين روسيا وإيران، الأولى أرسلت أسلحة غربية من الناتو للثانية لكى تقوم باستنساخها، والثانية تتعاقد لاستقبال مقاتلات سوخوى 35 الروسية من الجيل الخامس. التوازن العسكرى الإقليمى دخل دورة التبدل القوى، مدعوما بشراكات إقليمية ودولية عميقة.
الاقتصاد الدولى والمعاملات التجارية تشهد متغيرا مهما، فالهند وروسيا تتفقان على التبادل التجارى بينهما بعملة دولة الإمارات، بدلا من الدولار. التخلى عن الدولار فى التجارة العالمية هو أحد أهداف روسيا لتوجيه ضربة للهيمنة الأمريكية، بينما مصلحة الهند تكمن فى الحصول على النفط والغاز والأسلحة الروسية بأسعار مميزة، وبعيدا عن المعاملات البنكية التى يمكن رصدها أمريكيا. يأتى هذا فى وقت تتوافق فيه الهند والولايات المتحدة على الحد من النفوذ الصينى فى القارة الآسيوية وتعزيز القدرات الهندية العسكرية فى مواجهة التطور العسكرى الصينى. التحركات الهندية فى اتجاه روسيا والصين والولايات المتحدة، متناقضة، ولكنها تنهى المقولة الأمريكية إن البدائل المتاحة أمام العالم تنحصر فى مناصرة أمريكا أو مناصرة روسيا. فلم تعد الخيارات أمام الدول أحادية، بل صارت متنوعة ومتشابكة، وتلك بدورها واحدة من أهم حسنات التعددية القطبية الآخذة فى ترسيخ نفسها على قمة النظام الدولى.
نقلا عن الأهرام