العالم العربى من التقاعس الى التنافس – الحائط العربي
العالم العربى من التقاعس الى التنافس

العالم العربى من التقاعس الى التنافس



إن جوهر أزمة العالم العربى التى جعلته غير قادر على تحقيق أى اختراق فى أى من التحديات التى واجهته، ومازالت تواجهه أنه يفتقد الى نقطة الثبات المرجعية التى تمثل نقطة الصفر، نقطة الانطلاق نحو المستقبل، وتحول دون ان تكون حركة معظم المجتمعات والدول العربية صاعدة نحو المستقبل، يومها خير من أمسها، ومستقبلها افضل من ماضيها، بل حدث العكس حيث سارت بعض تلك المجتمعات والدول فى حركة دائرية، عبر عنها الشاعر الحكيم ذو الرمة غيلان بن عقبة التميمى المتوفى ٧٣٥م، حين قال: عشية ما لى حيلة غير أننى/ بلقط الحصى والخط فى الترب مولع/ أخط وأمحو الخط ثم أعيده/ بكفى والغربان فى الدار وقعُ.

وعلى العكس من ذلك كان العالم الأوروبى الذى نجح فى لحظة خروجه من العصور الوسطى، وبداية انطلاقاته الكبرى العلمية والصناعية، ومعها الحركة الاستعمارية ان يضع نقطة ثبات مرجعية تكون هى نقطة الصفر التى لا يتم الرجوع الى ما قبلها على الإطلاق، وكانت نقطة الثبات المرجعية هى مؤتمر ويستفاليا ١٦٤٨م، حين اجتمعت جميع الكيانات السياسية الاوروبية القائمة فى ذلك الوقت فى قاعة فى قصر ويستفاليا تم تصميم القاعة بعدد أبواب يساوى عدد الكيانات السياسية المشاركة؛ حتى لا يتقدم احد على احد، وفى هذا المؤتمر ظهر مفهوم السيادة، وأصبحت جميع الكيانات المشاركة بغض النظر عن حجمها، أو قوتها، أو مساحتها، أو عدد سكانها دولا ذات سيادة سواء أكانت قوة كبيرة، أو مجرد قلعة صغيرة وشارعين خلفها. هنا لم يعد فى أوروبا دولة صغيرة وأخرى كبيرة، الجميع سواسية ومتساوون فى السيادة والمكانة.

انعدام نقطة الثبات المرجعية جعل العالم العربى فى صراع صامت او معلن بصورة دائمة، بين بعض الدول العربية، وقد كان هذا الصراع الصامت او المعلن محدود الأثر فى زمن التقاعس العربى منذ ثمانينيات القرن الماضى، حين دخل العالم العربى فى عصر التطرف الدينى، والحروب العبثية داخل الدول وبينها، وحين تراجعت عمليات التنمية وركد الاقتصاد، وتعطلت معظم الطاقات وزاد الاعتماد على المصادر التلقائية للثروة سواء من باطن الأرض، او من امطار السماء، ثم جاءت أحداث سبتمبر ٢٠٠١، وتحول العرب الى هدف للحرب على الإرهاب، وتلاها الربيع العربى المشئوم، فازداد التقاعس، وترسخ فى الثقافة والمجتمع، والتقاعس هنا يعنى الركود والتأخر والكسل، والتغافل عن المصالح والأهداف، واللامبالاة بالمخاطر والمهددات.

والآن وبعد الخروج من حالة التقاعس، ذلك الخروج الذى يتزامن مع التحولات الاقتصادية والسياسية الكبرى فى العالم؛ وانتقال مركز القوة العالمى من الغرب الى الشرق، وتحول مركزية الاهتمام العالمى من القوة العسكرية الى الاقتصاد والتكنولوجيا، هنا تحول العالم العربى فجأة من التقاعس الى التنافس، ولكن للأسف تنافس لا يقوم على توظيف المزايا النسبية لكل دولة على حدة، ولا يعتمد على الإمكانيات الأكثر تميزا فى كل دولة، ولا يوظف الطاقات الفريدة فى كل دولة؛ بل يقوم على تكرار نفس المجالات التى نجحت فيها دولة اخرى، فهو تنافس صراعى وليس تكامليا، ويقوم على التكرار وليس التنوع..

حالة التنافس القادمة للعالم العربى سوف تسهم فى خلق صراعات وحروب اقتصادية سوف تكون أسوأ بكثير من الحروب السياسية والعسكرية، وسوف تسمح بتمدد مصالح الدول الأخرى من خارج الإقليم العربى للاستفادة من هذه الحالة، وتحقيق مصالحها على حساب دول الإقليم، وسوف تسمح كذلك لتمدد مصالح دولية كبرى للاستفادة من ثروات العالم العربى لصالحها، وسوف يكون الخاسر الأكبر هو الانسان العربى على المدى البعيد.

ولمنع تحول التنافس – الذى هو فى جوهره وسيلة خلاقة للإبداع والتطوير والتقدم – الى سبب للصراع بين الدول العربية لابد من تحرك الطبقة المثقفة لتقديم رؤى مبتكرة للتنسيق على مستوى القطاعات والمجالات المختلفة، بما يعطى لكل دولة مزايا نسبية فى المجالات التى لها السبق فيها، او التى تملك فيها موارد افضل. ولابد كذلك من ثورة ثقافية تحرر العقل العربى من سلبيات الثقافة المتوارثة التى لا ترى نجاح الذات الا فى فشل الآخر القريب، وتحريره من كل العقد التاريخية، سواء عقد الاستعلاء او عقد النقص، وهما متلازمتان تسيطران على مساحة كبيرة من العقل الجمعى العربى.

هذه المرحلة فى تاريخ العرب خطيرة جدا، والحل فيها ليس سياسيا فقط، لان انتقال التنافس الصراعى الى الجماهير بفعل انتشار وسائل التواصل الاجتماعى سيحول أى صراع سياسى محدود الى صراع اجتماعى ممتد لأجيال قادمة يصعب معها الإصلاح.

نقلا عن الأهرام